
كتب محرر الشؤون الاقتصادية:
ما زال الغموض يسيطر على غالبية الخطوات والقرارات التي تتخذها الهيئة العامة للاستثمار، فقراراتها كما وصفها ديوان عام المحاسبة تفتقد الشفافية، وهذا الأمر تجلى بوضوح في تأكيدها الأخير المضي قدماً في بيع مساهماتها في أكثر من شركة محلية إلى القطاع الخاص.
وإذا كانت هيئة الاستثمار تفكر في بيع مساهماتها في الشركات الخاسرة، فإن الأمر لن يكون مستغرَباً، ففي هذه الحالة يمكن تعليل ذلك بأنها تفكر تفكيراً اقتصادياً بحتاً، قائماً على مبدأ الربح والخسارة، وفي هذه الحالة لن يكون اللوم كبيراً عليها، ولكن الغريب في الأمر أن «الهيئة» تعتزم بيع مساهماتها في شركات تحقق مكاسب سنوياً بمئات الملايين من الدنانير، في حين أنها تصرّ على الإبقاء على استثمارات خارجية تكبِّدها خسائر بمئات ملايين الدولارات سنوياً، مع العلم أن كثيراً من استثماراتها الخارجية شابها الغموض خلال السنوات الماضية، ومُنيت بخسائر كبيرة، بسبب الأزمات الاقتصادية المتتالية، بداية من الأزمة المالية العالمية في العام 2008، التي تكبَّدت خلالها خسائر فادحة ، مروراً بأزمة الديون السيادية الأميركية، التي تكبَّدت خلالها خسائر كبيرة أيضاً، ثم الأزمة المالية في منطقة اليورو، التي ما زالت مستمرة حتى الآن، وخسائر «الهيئة» فيها ما زالت تتوالى، وهذه الأمور كلها ذكرها ديوان عام المحاسبة في تقاريره المختلفة، وتطرقنا إليها سابقاً.
إصرار ومكابرة
ورغم ذلك كله تصرّ «الهيئة» على بيع استثماراتها المحلية الرابحة، والإبقاء على الاستثمارات الخارجية الخاسرة، وكأنها تصرّ على أمرين، الأول بيع استثمارات رابحة ومضمونة تحقق أرباحاً بملايين الدنانير سنوياً، والإبقاء على استثمارات خاسرة، والأمر الآخر، التخلي عن دعم الاقتصاد الكويتي ببيع حصصها في هذه الشركات، ودعم الاقتصادات الخارجية، خصوصاً الأوروبية منها، التي تعاني مشكلات اقتصادية، فمنذ أشهر قليلة أعلنت أنها ستستثمر مبالغ كبيرة في الاقتصاد الألماني، وكأن «الهيئة» تم تأسيسها لدعم الاقتصادات الخارجية، وليس لدعم الاقتصاد الكويتي!
وقد أعلنت الهيئة العامة للاستثمار نهاية أكتوبر الماضي، استئناف برنامج تحويل مساهماتها في الشركات المحلية إلى القطاع الخاص، مؤكدة أنها حصلت على موافقة «هيئة أسواق المال» لبيع مساهماتها في كل من الشركة الكويتية للاستثمار، وبيت التمويل الكويتي، وكذلك شركة الاتصالات المتنقلة (زين)، وسوف تبدأ بطرح ملكياتها في الشركة الكويتية للاستثمار للاكتتاب العام، على أن يتم الانتهاء من الاكتتاب في موعد لا يتجاوز النصف الأول من 2015، أما بيع مساهماتها في بيت التمويل الكويتي، وشركة «زين» فقد تأجل إلى وقت لاحق.
أمر غير منطقي
وفي هذا الشأن يقول مصدر اقتصادي، إن ما تقوم به الهيئة العامة للاستثمار أمر غير منطقي تماماً، وهو هدم للاقتصاد الكويتي، وإرباك لعدد من أهم شركات القطاع الخاص في الكويت، حيث إن إدخال ملاك جدد على هذه الشركات من شأنه أن يعرقل خطط هذه الشركات، ويوقف تقدّمها ونموها، وقد تحتاج هذه الشركات إلى سنوات لتنظيم أوضاعها من جديد، فالمالك الجديد غالباً ما تكون له خطط واستراتيجيات جديدة، خصوصاً أن الملاك الجدد سيسيطرون على نسب كبيرة من هذه الشركات (النسب التي كانت تمتلكها هيئة الاستثمار)، وهذا سيؤثر في أعمال هذه الشركات ونشاطها في السوق المحلي، وعلى العمالة بها، مما سينعكس بالسلب على هذه الشركات وعلى العمالة الوطنية.
ويضيف المصدر: على الرغم من إعلان هيئة الاستثمار «أنها ستعيد استثمار الأموال المتولّدة من الاكتتابات في صناديق وأدوات استثمارية جديدة تطرحها الشركات في السوق، وأن هذه الخطوة تهدف إلى دعم القطاع الخاص وتشجيع المواطنين على الانخراط في الاستثمار في الأسهم القيادية»، فإن الأمر لا يبدو منطقياً، فـ «الهيئة» تتخلى عن استثمارات تدر مئات الملايين أرباحاً سنوية، مقابل الاستثمار في أدوات استثمارية جديدة ستطرح، ولا يعلم أحد إن كانت ستربح أم ستكون خاسرة، وهذا أمر غير منطقي، ثم إن «الهيئة» لا تنقصها الأموال لتبيع هذه الاستثمارات مقابل استثمارها في أدوات جديدة، فهي تملك من الأموال الكثير والكثير الذي لم يستغل بعد، ما يمكنها من الاحتفاظ بهذه الاستثمارات، والاستثمار في الأدوات الجديدة في ذات الوقت، بل إنه كان يمكنها الاستثمار في الأدوات الجديدة من الأرباح التي تحققها من استثمارها في الشركات التي قررت بيع مساهماتها فيها. كما أن الادعاء بأن هذه الخطوة تهدف إلى تشجيع المواطنين على الانخراط في الاستثمار في الأسهم القيادية، لم يحدث سابقاً في تخارجات «الهيئة» خلال الفترة الأخيرة من عدة ملكيات منها شركة «أوريدو» (الوطنية للاتصالات المتنقلة سابقاً)، التي استحوذت عليها شركة كيوتل القطرية، وكذلك بنك بوبيان الذي استحوذ عليه البنك الوطني، فالكيانات الاقتصادية الكبيرة هي التي استحوذت على هذه الملكيات، والاستفادة انصبَّت على ملاك هذه الكيانات، ولم يستفد المواطن منها.
تخبُّط وغموض
ويشير المصدر إلى أن الأمر يلفه الكثير من الغموض، ويبدو أن هناك تخطيطاً لتدعيم ومساندة جهات بعينها سوف تطرح مستقبلاً أدوات استثمارية، وهذا الأمر أشارت إليه «الهيئة» نفسها، حيث ذكرت أنها ستعيد استثمار الأموال المتولّدة من الاكتتابات في صناديق وأدوات استثمارية جديدة تطرحها الشركات في السوق، فما الفائدة من بيع حصص في شركات رابحة، وشراء حصص في شركات أخرى لا يعلم مصيرها أحد؟ هل الهدف هو ضخ أموال في هذه الشركات؟
وما يؤكد أن الأمر به غموض وعدم شفافية، الأسباب والعلل التي تسوقها «الهيئة»، تبريراً لبيع هذه المساهمات، فعندما أعلنت في شهر مايو الماضي أن «كل الشركات التي تساهم بها داخل الكويت قابلة للبيع» كانت الأسباب التي ساقتها في ذلك الوقت، أن هذا الأمر جاء مرتكزاً على برنامج متكامل بدأت في تنفيذه في بداية التسعينات، وأنه متوافق مع التوصيات التي خلصت إليها دراسة قام بها البنك الدولي، واليوم تعلن أن السبب وراء بيع هذه المساهمات هو دعم القطاع الخاص، وتشجيع المواطنين على الانخراط في الاستثمار في الأسهم القيادية»، فـ «الهيئة» أصبحت «كل يوم بكلام»، وهذا الأمر يدل على عدم الشفافية.
بيع جماعي
لم يقتصر تفكير هيئة الاستثمار في بيع المساهمات المحلية على الشركات الخاسرة فقط بهدف التخلص من أعبائها، بل شمل هذا التوجه الشركات الرابحة، ومنها شركة «زين» وبيت التمويل الكويتي، وبما أن «الهيئة» أعلنت أنها ستبيع كل مساهاماتها المحلية، فإن القادم سيكون باقي مساهماتها في البنوك المحلية، والعديد من الاستثمارات المربحة، وكذلك يشمل البيع الشركات التي بدأت تحقق أرباحاً جيدة بعد سنوات من الخسائر، وكأن «الهيئة» ساهمت في هذه الشركات لتتحمّل خسائرها، وعندما بدأت تحقق الأرباح، وأصبح في الإمكان تعويض ما خسرته من أموال، قررت أن تبيعها وتحرم المال العام من تعويض ما فقده خلال السنوات الماضية.
حلقة مفرغة
أما من ينادون بضرورة قيام هيئة الاستثمار ببيع الاستثمارات المحلية، وإفساح المجال أمام القطاع الخاص لممارسة دوره، فإننا لسنا في حاجة إلى تذكير هؤلاء بما حدث للقطاع الخاص عند تعرّضه لهزة خلال الأزمة المالية العالمية العام 2008، وتعثره الذي ما زلنا نعاني منه حتى الآن، وما نجم عن ذلك من تسريح للعمالة الوطنية، وهي المشكلة التي لم تحل إلى الآن، وما زالت الدولة تدفع رواتب لهؤلاء المسرَّحين حتى اليوم، لذلك نستغرب من أمر الذين يطالبون بإعادة بيع ملكيات هيئة الاستثمار في الشركات المحلية مرة أخرى إلى القطاع الخاص، متعللين بأن هذا الأمر خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو مزيد من تفعيل دور القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني، ومنح هيئة الاستثمار مجالاً فسيحاً للتركيز على أعمالها الأساسية، والتفرغ للتفكير في مشاريع استثمارية استراتيجية محلية وتنفيذها.
إن الأمر المؤكد أن القطاع الخاص في الكويت لا يستطيع الصمود في وجه أي هزة مالية، وعند أي أزمة يصرخ ويطالب الدولة بالتدخّل لإنقاذه، ومن ثم سنجد تدخلاً جديداً لهيئة الاستثمار، وشراء حصص في شركات القطاع الخاص، ونظل ندور في هذه الحلقة المفرغة، ويتحمَّل المال العام الكثير من الخسائر، من أجل دعم هذه الشركات، وإعادتها إلى الطريق الصحيح مرة أخرى.
كارثة على الاقتصاد
من المؤكد أن بيع كل حصص هيئة الاستثمار في الشركات للقطاع الخاص مرة أخرى، سيكون مجالاً خصباً للتلاعب في الأسعار، وفرصة مناسبة للباحثين عن التنفيع، فالهيئة تساهم في نحو 102 شركة، وبالتأكيد بيع كل هذه المساهمات سيكون كارثة على الاقتصاد، وقد يهبط بأسعار أسهم كثير من الشركات، ما يضر بالمساهمين.
مساهمات متعددة
تساهم الهيئة العامة للاستثمار بنسبة تفوق 5 في المئة في العديد من الشركات المدرجة في سوق الكويت للأوراق المالية، كما تساهم في العديد أيضا من الشركات غير المدرجة في السوق، وتعتبر الشركة الكويتية للاستثمار من الأذرع الاستثمارية للهيئة، وتمتلك ما يزيد على 76 في المئة من رأسمالها، و»الكويتية للاستثمار» هي أولى شركات الاستثمار في الكويت، وهي تعمل في مختلف نشاطات الاستثمار، محلياً وعالمياً، وقد عانت كشركة استثمار من تداعيات الأزمة المالية العالمية ونجحت مؤخراً في تحقيق مستويات من الربحية المتوسطة، أما بيت التمويل الكويتي فتمتلك الهيئة 24 في المئة من رأسماله.