
محمد الغربللي:
«إعادة الإعمار» كان العنوان المتكرر على مدى عقود من الزمن في العالم العربي.. لم نلاحظ عملية التنمية المستدامة ورفاهية الشعوب وإنشاء المصانع وتنويع الدخل وإيجاد فرص عمل متزامنة مع التنمية بل أكثر العناوين تكراراً هو «إعادة الإعمار» بعد الكوارث التي حلّت في العالم العربي جراء بعض الأنظمة العربية وسياستها الخرقاء وتفرُّدها السلطوي بكل أشكاله وألوانه.
أول مرة سمعنا عن «إعادة الإعمار» كانت صادرة من العراق بعد توقف الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988 بإطلاق الرئاسة العراقية آنذاك حملة تبرعات محلية وعربية لإعادة إعمار الفاو، المدينة العراقية الجنوبية التي احتلتها القوات الإيرانية إبان فترة الحرب التي استمرت ثماني سنوات.. حكومات عربية، ومنها الكويت، ساهمت في الحملة، ولم يقتصر الأمر على الجانب الرسمي بل تعداه إلى الخاص من شركات أو أفراد ساهموا في صندوق إعادة إعمار الفاو كما كان يدّعي النظام العراقي.. وفي الوقت الذي كانت تُدفع فيه الأموال إليه، كان النظام العراقي يحضّر نفسه لحرب ثانية، ليست حرباً محدودة، بل عملية غزو لبلد عربي محاذٍ له، ساهم طوال سنوات حربه مع إيران بتقديم بلايين الدولارات إليه.. وفي الثاني من أغسطس عام 1990 شنّ النظام العراقي حربه على الكويت، وخلال أربع وعشرين ساعة احتلها بإجراءات يومية متواصلة، لمحوها من الخريطة السياسية بضمها إلى العراق لتكون إحدى محافظاته.. ومنذ الأيام الأولى للغزو قام بتدمير وسرقة العديد من المنشآت والمخازن تحت إشراف مباشر من وزير تجارة النظام أنذاك محمد مهدي صالح، أو بسرقات فردية طالت كل مكان على يد القوات العسكرية العراقية بمختلف الرتب العسكرية من الضباط الكبار وحتى الأفراد.. ولم ينسحب الجيش العراقي في 26 فبراير 1991، إلا بعد أن قام بتفخيخ عدد كبير جداً من الآبار النفطية وتفجيرها، مما أدى إلى نشوب حرائق نفطية هائلة، وتسرب النفط على شكل بحيرات نفطية بالمئات، كما قام بتفجير ما تيسّر له من المؤسسات قبل هزيمة قواته وانسحابها من الكويت.
إعادة إعمار الكويت
بعدها أتت مرحلة إعادة إعمار الكويت، بعد اندحار القوات العراقية، ولم تعتمد الكويت على حملة تبرعات أو مساهمات إنسانية، بل بما توافر لديها من أموال، فبادرت بداية إلى إخماد حرائق الآبار النفطية بالتزامن مع إعادة بناء أو تأهيل المنشآت التي أصابها الضرر من مدارس وفنادق ومبانٍ حكومية ومصانع عامة وخاصة ومزارع ومنازل، وعدد كبير من المنشآت، بما في ذلك بعض الطرق وسواحل البحر، ولأن التدمير كان كبيراً جداً خلال فترة أشهر الاحتلال العراقي السبعة، تحوّلت الكويت إلى ورشة كبيرة في ذلك الوقت لإعادة الإعمار، ليس على المستوى الرسمي للمنشآت العامة فقط، بل وأيضا على مستوى أصحاب الجهات الخاصة، ممن تضررت مصالحهم.. وقد جرت تجاوزات ومبالغات مالية في إرساء الأعمال المراد إعادة بنائها، وكان هاجس لجنة إعادة الإعمار في ذلك الوقت هو تسريع البناء من دون النظر إلى التكلفة الفعلية، ولم تكن هناك رقابة مالية أو لجنة مناقصات أو تدقيق على الأسعار.. فلا صوت كان يعلو فوق صوت إعادة الإعمار! ولم تتوقف عملية إعادة الإعمار حتى يومنا هذا، فلقد خصص صندوق التعويضات، التابع للأمم المتحدة، مبلغ ثلاثة بلايين دولار عام 2007 لمعالجة البرك النفطية ضمن مبالغ التعويضات التي دفعتها الحكومة العراقية، وتعطلت العملية لسنوات وحتى الآن لم تباشر الشركات التي تم تأهيلها لإنجاز العملية، وهي تنظيف البرك، وعددها خمس عشرة شركة في البدء بعملية التنظيف.. ومازالت العملية لما قبل بدء التنظيف متوقفة حتى الآن بعد مرور ثلاثة وعشرين عاماً على الغزو العراقي.
إعادة الإعمار في الكويت ليست لأسباب طبيعية، كالزلزال أو العواصف، بل بسبب غزو جار عربي، وقفت معه الكويت وقدّمت إليه يد المساعدة طوال سنوات، ولم يكن جزاؤها إلا كجزاء سنمار من نظام صدام حسين.
إعادة إعمار لبنان
قبل ذلك كانت عملية إعادة إعمار لبنان، فبعد اتفاق الطائف، الذي أُبرم مع الفرقاء اللبنانيين في 30 سبتمبر 1989، وانتهاء الحرب اللبنانية في بدايات التسعينات، تولى المرحوم رفيق الحريري سلطة رئاسة مجلس الوزراء في أكتوبر 1992، وكان همّه الأساسي وشاغله آنذاك إعادة إعمار لبنان، وبتفكيره كرجل أعمال ذائع الصيت وبعلاقاته العربية، بالذات مع المملكة السعودية ودول الخليج الأخرى عمل على جذب الرساميل المالية لإعادة إعمار لبنان بعد سنوات الحرب الأهلية، التي لم تكن الأصابع الإسرائيلية بعيدة عنها، بل أججتها بشكل مباشر، أو عن طريق أطراف لبنانية ذات علاقة مع الكيان الصهيوني.
حرب أدت إلى تدمير البنية التحتية اللبنانية، وعلى المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومازالت العديد من المرافق العامة كالكهرباء والماء والبنى الأساسية لم يستكمل إنجازها، وآثار الحرب مازالت موجودة.. لم يكن هناك غزو عربي، بل إسرائيلي لإعادة صياغة الوضع اللبناني بما يخدم إسرائيل.. وأيضا حدثت تجاوزات مالية كبيرة في عملية إعادة إعمار لبنان، لاسيما أنها تتوقف أحياناً إن لم يعط هذا الطرف أو الفريق مقداراً من الحصة المالية أو التنفيع المادي.
إعادة إعمار العراق
مع سقوط نظام صدام حسين عام 2003 باشر العراق في إعادة إعمار ما خلفته الحرب الأميركية البريطانية على العراق وتردي البنى الأساسية في مختلف القطاعات طوال حكم نظام صدام، من شوارع وخدمات صحية ومجارٍ وكهرباء وغيرها من المرافق.. وكانت عملية إعادة إعمار العراق تتم تحت إشراف مباشر من الإدارة الأميركية بمساعدة عدد من المسؤولين العراقيين، وجرت أكبر عملية نهب في تلك العملية على يد بعض وزراء تولوا حقائب وزارية وألقي القبض عليهم، لكنهم غادورا العراق بما حملوه من أموال بجوازاتهم الأجنبية وعاشوا ومازالوا في الخارج بعد أن امتلأت أرصدتهم بملايين الدولارات.. عملية النهب بدأت منذ سقوط نظام صدام حسين ودخول وهيمنة الولايات المتحدة على العراق، ومازالت مستمرة حتى يومنا هذا.. هناك موقع إلكتروني عراقي بعنوان «فاسدون» يذكر في ديباجته «نظراً لكثرة الفساد في العراق، حيث تحتل العراق المركز الثاني من الأسفل في نسبة الفساد بعد الصومال، فقد ارتأينا تصنيف الأقسام إلى أربعة أقسام رئيسية».. ويتناول الموقع أسماء 41 شخصية سياسية عراقية، فاضحاً حالات الفساد التي قاموا بها، وكانت بدايات عملية الفساد أيام النظام العراقي السابق، ولكنها كبرت وتضخمت بعد انهياره، وبدايات شعارات إعادة إعمار العراق.
حرب 2006 على الجنوب
مرة أخرى تعيد لبنان إعادة إعمار جزء من بنيتها، علماً أنها لم تستكمل حتى الآن ما خلفه الغزو الإسرائيلي عام 82 من دمار، وما لحق بها جراء الحرب الأهلية اللبنانية، أتت المرة الأخرى هذه بعد حرب إسرائيل وهجومها البربري على جنوب لبنان عام 2006، وتدميرها مناطق مدينة في الضاحية الجنوبية في بيروت، حيث قامت بقصف المباني والأماكن المدينة كعملية ضغط على لبنان وعلى حزب الله اللبناني.. مساعدات لإعادة الإعمار جراء ما خلفته الحرب الهمجية الاسرائيلية أتت من دول عربية، ومنها الكويت، وأيضا إيران نظراً للعلاقة السياسية والارتباط الاستراتيجي مع حزب الله.. ونظراً للمسؤولية السياسية عن الحرب، فقد تولى حزب الله جزءا كبيرا من إعادة بناء الضاحية الجنوبية، يفوق ما تولته الحكومة اللبنانية.
إعادة إعمار قطاع غزة
آخر«إعادات الإعمار» على الساحة العربية كان المؤتمر الذي عُقد في القاهرة مؤخرا، بناء على مقترح من النرويج لإعادة إعمار قطاع غزة، الذي لا تزيد مساحته على 360 كيلو متراً مربعاً.. غزة كانت بالكاد تتنفس قبل الحرب الإسرائيلية الهمجية على القطاع، حرب دامت خمسين يوماً لم تبقِ ولم تذر من مبانٍ ومرافق رسمية، والصواريخ الإسرائيلية قصفت بوحشية حتى الأطفال الذين يلعبون على شواطئ غزة.. ومع تردي كل الأوضاع في القطاع، من شوارع وكهرباء ومياه ومجارٍ صحية، ومع سوء بنية المدارس ونقص في عدد الأسرّة في المستشفيات، استكملت الهجمة الإسرائيلية ما هو قائم من مصانع ومنشآت ومرافق عامة ومنازل الشعب الفلسطيني هناك بآلاف المساكن.. المبلغ المطلوب كبير لإعادة الإعمار، فبرزت دولة قطر بمسوؤلية مالية بالتزامها بدفع مبلغ مليار دولار ضمن صندوق «إعادة إعمار» غزة، وتوزّعت المبالغ الممنوحة على الدول المشاركة بمبالغ متفاوتة، ومنها الكويت، بمنحها 200 مليون دولار.. أما الدولة التي ارتكبت المجازر والتدمير المقصود لكل المباني، فلقد خرجت من دون أن تتحمّل دولاراً واحداً، ونقصد هنا إسرائيل، التي ستستفيد بشكل مباشر أو غير مباشر من الأموال التي تم منحها لإعمار غزة.. وكما فعلتها على مدار سنوات في لبنان عام 82 وعام 2006 كان آخر جرائمها صيف 2014 في غزة.
دعوات جديدة
لن تنتهي عمليات «إعادة الإعمار» في المنطقة ولن تسكن، فهناك دعوات لإعادة إعمار ليبيا هذه المرة، لاسيما أن هذه الدولة العربية لديها من النفط والغاز ما يُسيل لعاب الشركات والدول الغربية للبدء في رفع هذا الشعار بعد انتهاء التدمير الذاتي، الذي يدور حالياً هناك. وحبات السبحة مازالت مستمرة في التناثر.. ومع أن الضوء في نهاية نفق الحرب الأهلية والإرهابية التي تدور في سوريا من أكثر من ثلاث سنوات وخلفت تدمير كامل في كل المرافق دون استثناء لم يظهر بعد، إلا أن النظرة المستقبلية ترنو نحو رفع هذا الشعار: إعادة الإعمار في سوريا.
ومازال هذا حالنا منذ أكثر من عقود، نمرّ ما بين إعادة إعمار وأخرى.. مرة في هذا البلد أو ذاك، وكأنه كتب على الشعوب والدول العربية الاستمرار في عملية التدمير سواء الذاتي أو بأيدٍ خارجية، كإسرائيل أو الولايات المتحدة، بمشاركة حلفائها من الدول الغربية. شعوب في آسيا وأميركا اللاتينية تتقدّم وتنمو اقتصادياً ونحن نراوح مكاننا بإعادة إعمار هذه المنطقة أو تلك، منذ مسرحية إعمار الفاو وليس انتهاء بما تأتي به الأيام من إعادة إعمار بلد جديد،