
لا نحتاج إلى بحث مكثف لتبرير وجاهة وقيمة المصالحة والوحدة الوطنية لمستقبل البلاد والعباد، ولا نحتاج أيضاً إلى استدعاء التاريخ لنثبت مقدرتنا وحاجتنا الفطرية إلى تقبل الآخر والتعايش السلمي، كما لا يخفى على أحد أن المستقبل ستبنيه يدك ويد الآخر معاً، فالحاجة إلى المصالحة هي فطرة ومصلحة في الوقت نفسه لشركاء الوطن، فإذا لم تجمعهم وحدة وطنية، فلن يجمعهم إلا خراب الوطن، ولهذا تسقط باقي الخيارات بمجرد حضور فكرة المصالحة، حسب زعمي طبعاً.
ولعل المقلق في موضوع المصالحة هو حجم تضرُّر وحدتنا الوطنية بعد عقود من العبث، والتغاضي المشين من كل المستفيدين للأسف، وإن كنت أعتقد جازماً، ملتحفاً تفاؤلي، أن اللحمة الوطنية والترابط الاجتماعي قد تعرضا لبعض الخدوش، ولكنهما ستتعافيان بسرعة، ولا أتمنى أن نمر بتجربة مريرة كالغزو لأثبت صواب اعتقادي، لكن توجد مؤشرات كثيرة على أن الانقسامات سياسية، إذا اعتبرنا أننا نمارس سياسة أصلاً، فنحن للأسف في حالة انتخابية مصلحية، سيطرت أفعالها وردود أفعالها على عواطف الشارع، ووجدت من يغذِّيها لمصالح متعددة، ليس منها مصلحة الوطن بالتأكيد، وإن كان المريح بالأمر أنها لم تخرج عن السيطرة بعد، فلا يزال في الوقت متَّسع، ولا يزال للأمل آفاق، فوحدتنا قدر وليست اختياراً، ونحن لا نملك خياراً آخر غير أن نكون كويتيين جميعاً، لا نلغي أحداً أو نفرز أحداً، وهنا بالذات ما زلت متفائلاً تفاؤلاً حقيقياً وليس عاطفياً، صحيح أن معاول الفرز الطائفي والقبلي والفئوي أنهكت عقولنا وأجسادنا، لكنها لم ولن تصل إلى قلوبنا وأرواحنا (أتمنى ذلك)، ناهيك عن خطابات الكراهية المقيتة ذات الطابع المصلحي والدعائي، لكن رغم كل هذا يعلم المتتبع أنها سلوكيات شاذة، هدفها مصلحة شخصية بدليل ازدهارها في وقت الانتخابات على سبيل التذكير، وحتى أثرها الاجتماعي يمكن تصحيحه بخطط تعليمية وتثقيفية، فهي في النهاية نتيجة وليست سبباً.
من أين نبدأ؟ سؤال بسيط يخفي عمقاً بحجم الأمل، ويتكئ على بعض الخبرة وحصيلة مجموعة من النقاشات المطوَّلة مع فرقاء صادقين بحب وطنهم، كما أدعي ويدعون، جمعنا الطريق وفرَّقتنا الطريقة، سأحاول اختصارها من دون إخلال أو إسهاب، فلنا مع هذا الحلم عودة وردة أخرى، أولاً يجب أن نعلم أن المصالحة الوطنية ليست عصا سحرية، وأن مجرد التلويح بها سيحلّ كل مشاكلنا ويستر جميع عيوبنا، إنها مجرد فتح الأبواب للتخلص من الاحتقان أو قل الانسداد إن شئت، هي خطوات أولى تبدأ بقبولها، ثم التفاني من أجل نجاحها، هي رد لجميل الأجداد بصنع مستقبل الأحفاد، هي مجد يكفي فخر محاولته عن الكثير والكثيرين، كلنا آباؤها إذا تمت بإذن الله، وكلنا ضحاياها إذا تعثّرت، نتصالح ثم نبني لا العكس، فبناء المستقبل يبدأ بعدها، لا في أثنائها أو قبلها، ولا بأس من اتخاذ قاعدة يبنى عليها هذا الحلم ومبادئ تحدد مسارها، الدستور مثلاً اختيار واختبار جيد كبداية، على الرغم من تكرارنا الدائم أنه يمثل حداً أدنى لطموحنا، وقناعتي المطلقة أنه لم يطبَّق بشكل جيد منذ إقراره، إلا أنه يصلح أن يكون قاعدة يلتقي حولها وفوقها أيضاً الفرقاء «انتخابياً» أو سياسياً.
ليلتقي المتشابهون كخطوة أولى، فمجرد الجلوس معاً هو نجاح، نبدأه بالدوائر الأصغر، نحدد بها حدود الالتقاء مع المختلفين، فالسياسة هي فن الممكن، والمصالحة شيء ممكن، ولتكن أفكارنا الجامدة قابلة للتعديل أو النزول إلى حدها الأدنى للوصول إلى نقطة التقاء تكفي للجميع، لتكن مبادئنا غير القابلة للتجاوز مبنية على عناوين، أهم من المماحكات المنهكة، كإنجاح المصالحة الوطنية، وتعزيز الوحدة الوطنية، ومحاربة خطابات الكراهية وتجفيف منابعها، وهي أهم بكثير من إقرار أو تعديل قانون هنا أو هناك، والمصلحة الوطنية العليا أغلى بمراحل من طموحات أو خلافات شخصية قادتنا لعقود إلى معارك طواحين لا رابح فيها إلا أقطاب الصراع كان الشارع حطب نارهم، ومن الممكن بخطوات مخلصة فرز الاختلافات والبناء على المتماثل أو المتَّفَق عليه، وبعد تسجيل التقدّم وكسب ثقة الشارع، كل الشارع، نستطيع الحديث فنياً عن أفكار الإصلاح بأنواعه بكل أريحية وقبول من الكل، وكمثال لا توجيه قد يكون تعديل قانون الانتخاب أول ثمار المصالحة، لإضفاء العدالة والاتجاه للقوائم النسبية لتطوير الحالة الديمقراطية في الكويت بصيغة يلتقي عليها الكل حتى أصحاب الطموح الانتخابي.
وليس سراً أن المنبر الديمقراطي يبشر حالياً بتعديل يخص قانون الانتخاب، قد يكون مدخلاً لحالة توافق، وأتمنى أن أعود لكتابة تفاصيله في مقال لاحق، ولعل أهم ملامحه عدالة التوزيع والحفاظ على حق كل مكونات المجتمع في التمثيل الحقيقي، حيث حرص شباب المنبر على تجميع إيجابيات كل قوانين الانتخاب السابقة بقانون واحد، وهو القانون الحالي نفسه، لكن بتعديلات بسيطة ومهمة.
وبذكر المنبر، وأنا أحد كوادره، أحمِّله مسؤولية البدء بمشروع المصالحة لعدة أسباب موضوعية، أهمها أنه وسيط مقبول من أغلب الأطراف، وقام في وقت سابق بأدوار مشابهة، ونجح في ذلك، ولا أذيع سراً هنا إن قلت إن خطوات المشروع في طور التنفيذ قريباً، وأتمنى لها التوفيق، وأتمنى من شركائنا في الوطن التجاوب الإيجابي.
للعلم: تزيد الكلفة إذا تأخر القرار الصائب.