
محمد الغربللي:
نشرت الزميلة القبس على مدى عشر حلقات ترجمة كتاب «لعبة الشيطان»، للكاتب الأميركي روبرت دريفوس، وقام بترجمة مميزة لها الأستاذ محمد الأسعد.
وانتهت آخر الحلقات، التي كانت تُنشر يوميا في 22 من سبتمبر الماضي.. وقد صدر الكتاب في نيويورك عام 2005.
تنبع أهمية الكتاب من أنه يعتمد على وثائق يثبت بها الكاتب الأحداث التي يتناولها، وإن لم يكن يستند إلى مثل هذه الوثائق لا يذهب إلى الجزم النهائي للحدث، بل يحيط به، مع الإشارة إلى عدم وجود وثائق دالة عليه.. الأهمية الثانية لهذا الكتاب تنبع من أنه يعكس صورة واضحة وجلية للعلاقة ما بين الولايات المتحدة وأجهزة مخابراتها مع التيارات الإسلامية، أو ما يشبه إعادة المشهد مرة أخرى لما يدور حالياً بالنسبة للتنظيمات المستجدة على الساحة العربية، مثل النصرة وداعش وغيرهما من التنظيمات الإرهابية الأخرى، فكما تم استخدام هذه التنظيمات الإسلامية منذ مطلع الخمسينات من قبل الولايات المتحدة، ما زال هذا الاستخدام مستمراً مع تغيرات الزمن، لأن جذور العلاقة ممتدة بين الجانبين تاريخياً.
مواجهة المد القومي
لقد رأت الإدارة الأميركية أن التوجّه القومي العربي بالتحرر من الاستعمار البريطاني، وتحرير الاقتصاد الوطني وبناء دولة يشكل تهديداً مباشراً على مصالحها النفطية في المنطقة، وهكذا ارتبطت بالتنظيمات الدينية لمواجهة المد القومي التحرري الذي بدأ منذ قيام ثورة يوليو 1952.. ارتباط مزدوج ما بين أنظمة عربية مرتبطة بالسياسة الأميركية، ومحتضنة في ذات الوقت لهذه التيارات الإسلامية.. وقد كان موقف هذه التيارات واضحاً من ثورة يوليو 52، حيث وقفت ضد سياسات عبدالناصر التحررية على مستوى مصر أو الوطن العربي، وضد الدعم الذي يقدّمه لحركات التحرر الوطني.. وهكذا تطابقت السياسة الأميركية مع الأحزاب الدينية وبعض الأنظمة الحاضنة للتيارات الإسلامية لمحاربة التوجه العربي التحرري في مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
التدخُّل الأميركي في أفغانستان
أفرد الكتاب جزءاً مهماً للدور الذي قامت به الولايات المتحدة الأميركية واستخباراتها بشأن تشكيل التيارات الدينية في أفغانستان منذ عهد الرئيس كارتر وحتى قبل دخول القوات السوفييتية إلى أفغانستان بسنوات، وكانت السياسة الأميركية تهدف إلى ولوج باب الجمهوريات الآسيوية السوفييتية عن طريق أفغانستان في سنوات الحرب الباردة هناك.. وتم تحريك التيارات الدينية اليمينية هناك ضد النظام الأفغاني آنذاك، وقد كان دخول القوات الروسية إلى أفغانستان فرصة لزيادة التدخل الأميركي هناك بتشكيل قوات ذات مرجعية دينية – قبلية، لمحاربة النظام والوجود السوفييتي هناك بالتعاون مع الاستخبارات الباكستانية وبعض الأنظمة العربية والخليجية، وكان هناك تعاون كبير بين نظام السادات، الذي فتح أوجه التعاون مع جماعات دينية، أهمها جماعة الإخوان المسلمين، لتقديم الدعم والمساندة للأفغان، بما في ذلك السلاح الروسي لدى مصر للمقاتلين الأفغان، وكل ذلك كان يتم بترتيبات مع الاستخبارات الأميركية.. ولم يتردد البنتاغون في تزويد الأفغان بصواريخ ستينغر لمواجهة الطائرات الروسية، وهو سلاح أميركي إستراتيجي، لا يتم تقديمه حتى لبعض الأنظمة الموالية لها.. وقد تم ذلك ضمن حملة دعم المقاتلين الأفغان، كما ورد في الكتاب.
حملات الدعم الكويتية
بعيداً عن ما ورد في الكتاب تجاه الحرب الدائرة آنذاك في مطلع الثمانينات، نتذكر تماماً الحملات التي كانت تقوم بها التيارات الاسلامية في الكويت من دعم مالي وإعلامي لما يسمى بـ«المجاهدين الأفغان»، وكانت لا تخلو صحيفة المجتمع الكويتية في أعدادها الأسبوعية من متابعات لأعمال المجاهدين الأفغان الخرافية، وتم تجنيد جمعية الإصلاح الاجتماعي لمساندة الجهاد الأفغاني ضد التدخل السوفييتي ، كما أن الحملة الإعلامية تلك غطت على الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي بدأت عام 1988، ولم تحظَ من الجماعات الإسلامية بالدعم قياساً بما يخصص للمجاهدين الأفغان، وما زالت الصورة والحدث ماثلين، وكأنه حاضر، نذكر أنه في الإعداد للانتخابات النيابية التي جرت عام 1981 بعد تقسيم الدوائر، دخل «شاب» في مقتبل العمر آنذاك وناقش بحماس وهمّة إدانة موقف «جماعة الطليعة» من عدم مناصرتها للمجاهدين الأفغان, وكأنه لا توجد أية قضية وطنية أو قومية إلا حكاية الجهاد الأفغاني! بعد ذلك صار هذا الشاب أحد قياديي الحركة السلفية في الكويت، ثم أصبح نائباً في البرلمان الكويتي في انتخابات لاحقة، وتولى حقائب وزارية في حكومات متعاقبة حتى وقت قريب!
علاقة متجذِّرة
ممثلو التيارات الدينية لم يكونوا يعرفون إلا مواجهة التيار الوطني في موقفهم من الحرب في أفغانستان، إضافة لموقفهم من تعديل المادة الثانية من الدستور.. وما هذه المواقف التي اتخدتها الأحزاب الدينية إزاء الحرب في أفغانستان إلا تعبير عن العلاقة المتجذرة بين أميركا والجماعات الدينية في العالم العربي عامة، والخليج بشكل خاص، حيث تشكل المنابع المالية دوراً رئيسياً في تعضيد هذا الدور، وحتى بعد خروج القوات الروسية وسقوط النظام الذي كان قائماً في أفغانستان، نشبت حرب بين التنظيمات الأفغانية وأمراء الحروب، ولإصلاح ذات بين فيما بينها ذهب وفد رفيع المستوى من جمعية الإصلاح الاجتماعي لمحاولة إيقاف الحروب الدائرة بين الأحزاب الدينية المتصارعة فيما بينها.. وهذا يبين حجم العلاقة الوطيدة بين قياديي جمعية الإصلاح الاجتماعي والقوى الدينية هناك، وجميعها يتم تحريكها من قبل الاستخبارات الأميركية والباكستانية، وبعض الدول العربية ذات الارتباط مع الولايات المتحدة الأميركية.
هذه إضافات على ما جاء بالكتاب وفق ما قام بترجمته الأستاذ محمد الأسعد، وهنا يتبين من واقع الحلقات أن «القاعدة» والمجاهدين الأفغان ما هم إلا نتاج صناعة أميركية باكستانية عربية بحتة، ضمن أدوات الحرب الباردة لمواجهة الاتحاد السوفييتي في تلك السنوات.. وربما ستكشف الأيام أو السنوات المقبلة الدور الأميركي بالاشتراك مع بعض الدول الغربية وأنظمة عربية في خلق ما يسمى بـ»داعش» وجبهات إسلامية أخرى، فالولايات المتحدة تتخلى عن أدواتها التي أقامت علاقات معها منذ عقود، ثم تستخدمها وتعيد الحياة فيها متى دعت الحاجة إلى ذلك.
كتاب مميز
كما قلنا إن الكتاب مميز في توثيق المعلومات، كما هي الترجمة، والانطباع اليقيني أن قلة هم من تابعوا قراءة الحلقات التي نشرتها القبس الشهر الماضي، فمتابعة ترجمات تُنشر في الصحافة اليومية على مدى أيام لا تجد الاهتمام أو الوقت الكافيين لدى العديد من القراء جراء زيادة وسائل المتابعة والقراءة من عدة منابع، أدوات التواصل الاجتماعي، مواقع إلكترونية، هذا خلاف متابعة التلفزيون في بعض البرامج كل وفق توجهاته.. ومتابعة ترجمة كتاب في صحيفة يومية أمام كمٍّ هائلٍ من صفحات الصحف يحتاج إلى قدر من المواظبة والجهد في جمع ما يُنشر، أو أن يكون المتابع لديه اهتمام بالموضوع، بحيث تصبح المتابعة اليومية لما يُنشر من الأولويات، وبالتالي لن تصبح صفحات عابرة سبيل لا أكثر ولا تلقى أي اهتمام. فالموضوع الذي نشر مهم جداً ويكشف بوضوح ترتيبات السياسية الأميركية في المنطقة سابقاً، وإسقاطاتها على الزمن الحاضر.
وكما أسلفنا القول إن هذا الكتاب صدر عام 2005، أي منذ ما يقارب عشر سنوات، وبالرغم من أهميته، فإننا قد لا نجد ترجمة له في دور النشر العربية، وإن كان هناك إصدار له باللغة العربية، فإنه لم يتم إبرازه من ضمن الكتب ذات الأهمية في الإصدار.. وهذا يقودنا إلى الحديث عن ضعف القراءة عامة، والترجمات بشكل خاص، لدى القارئ العربي، والتي وصفت الحال فيها بأنها مزرية قياساً بمستوى القراءة في العالم، فوفقاً للدراسات والإحصاءات الخاصة، فإن الأوروبي يقرأ 20 كتاباً في السنة كمتوسط عام، أما العربي فكل 80 نسمة يقرأون كتاباً واحداً في السنة!
كما أن نتاج الدول العربية من مجمل الإنتاج السنوي للكتاب يمثل 1٫1 في المئة، وهي نسبة لا تشكل شيئاً على مستوى الإنتاج العالمي للكتاب، وحتى الترجمات من اللغة الأجنبية للعربية فيه تشكل واقعاً معيباً، فمعدل الترجمة من الأجنبية للعربية في السنة 330 كتاباً، أما في إسرائيل فيبلغ المعدل السنوي 15 ألف كتاب، وعندما يقال إننا أمة لا تقرأ، فليس هذا الأمر مجرد انطباع عام، أو كلاماً من دون أساس، بل الوقائع الإحصائية تدلل على ذلك، وكما قال أحد الناشرين العرب، يتم تنظيم حفل توقيع وبهرجة عند طباعة خمسة آلاف نسخة لكاتب ما، ويعتبر هذا العدد كبيراً، قياساً بكتاب آخرين.. بينما رواية الخيميائي للأديب البرازيلي باولو كويلهو طبعت منها 35 مليون نسخة!
واقع مزرٍ
واقع الكتاب مزرٍ تماماً في العالم العربي، وهذا تعبير وانعكاس لواقع القراءة، لذا لا عجب ألا ينتشر مثل هذا الكتاب على مستوى القارئ العربي، وألا يتصدّر قائمة الكتب التي تحظى بالنشر الكبير، كما أنه لا عجب من عدم متابعة ما تُرجم في القبس من حلقات لأبواب من هذا الكتاب، وكان يمكن أن تعزز معارض الكتب التي تقام في الدول العربية النشر والقراءة، إلا أن معارض الكتاب في الدول العربية وبالرغم من تكاثرها في أغلب الدول العربية إلا أنها لم تصل إلى الهدف المنشود في زيادة رقعة القراءة في عقود ماضية، كان أكثر المعارض أهمية معرض القاهرة ولبنان والكويت، بعدها تزايدت المعارض وتكاثرت، إلا أن محتواها تدنى بشكل كبير.
وقد ساهمت الرقابة الإدارية في تدني نسبة زوار تلك المعارض، وأغلب الكتب المعروضة التي تغطي على الإصدارات الجديدة هي كتب التراث الديني والطبخ وغيرها، دون عرض جيد لما صدر حديثاً من كتب، هذا خلاف أن مناسبة المعرض تمر بشكل باهت بعد ان فقدت قدراً كبيراً من محتواها ورسالتها الثقافية لنشر الكتاب والتشجيع على القراءة.. إنها أزمة مستمرة ومتزايدة في الوقت ذاته، والأرقام والإحصاءات تدل على تدني ساعات القراءة وتضاؤل الإنتاج الثقافي.
وفي ذلك انعكاسات سلبية على كل اتجاهات الحياة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية.. وغيرها ليرسم التقهقر الثقافي البيئة الملائمة لأمثال «القاعدة» أو «داعش» أو التنظيمات المتطرفة للمقبل من الأيام.

