
كتب محرر الشؤون المحلية:
عاد موضوع العلاج الصحي في الخارج إلى السطح مرة أخرى، بقرار مجلس الوزراء تخفيض المخصصات اليومية للموفدين للخارج لتلقي العلاج، سواء للمريض أو المرافق الأول والثاني، الذي لا يحصل على أي مستحقات يومية سوى تذكرة الطائرة على مرافقته للمريض. وقبل الحديث عن هذا الموضوع، فإن للعلاج في الخارج قصة لها جذور راسخة، حيث بدأت بكونها ظاهرة تنفيعية منذ عام 1975.. ففي تلك الفترة كانت الفوائض المالية في تزايد مذهل، بعد ارتفاع أسعار النفط، كما كان في الوقت ذاته وجود ما يشبه الصراع والتنافس بين أطراف في السلطة لحشد المؤيدين لها في مجلس الأمة، وقام عدد من هذه الأطراف بعمليات نقل الأصوات ما بين الدوائر الانتخابية العشر، بهدف تعزيز هذا الحشد للفوز في الانتخابات لأعضاء محسوبين عليها.. أموال وفوائض مالية متوافرة، وشد وجذب بين أطراف الحكم، بغرض التحكم في عدد من أعضاء السلطة التشريعية.. وقتها بدأت عملية إرسال المرضى للعلاج في الخارج لمن يستحق، أو لمن لا يستدعي علاجهم في الخارج لتوافره داخل الكويت.

القضية الظاهرة
أُثيرت هذه القضية، التي أصبحت ظاهرة وزاد الحديث عنها، من قِبل النائب السابق المرحوم خليفة الجري، الذي وجَّه سؤالا لوزير الصحة، آنذاك، لتزويده بأسماء المرضى المبعوثين في الخارج، ولم يتم الرد على سؤاله من المحكمة الدستورية، لاعتباره غير دستوري، لتدخله في أحوال الناس الشخصية.
ومع توالي السنوات استمرت العملية في أن يكون العلاج في الخارج من وسائل المكافآت لعدد معيَّن من المرشحين في الانتخابات.. لم يكن المال النقدي مستخدماً، كما هي الحال اليوم.. وزادت هذه الظاهرة في انتخابات 1981، بعد تقسيم الدوائر الانتخابية إلى 25 دائرة، بدلا من الدوائر العشر، وأصبح الأمر في أعداد الأصوات الانتخابية أكثر حصراً، وبالتالي أصبح التحكم في إرسال من يُراد إرساله للعلاج في الخارج بكفاءة أعلى، نتيجة لتقليص أعداد الناخبين في كل دائرة انتخابية بعد تجزئة الدوائر.
كلمة سرية
أحد المرشحين «السياسيين» في ذلك الوقت من هؤلاء المسدودة الأبواب أمامهم في كافة الأمور، وليس العلاج في الخارج فقط، يقول عن أحد الناخبين الذي أعطى صوته لمن لا يلتقي معه، لا سياسيا ولا تعاطفا، ومع ذلك أعطاه صوته، إنه «داخ السبع دوخات» ما بين لجنة طبية وأخرى لتلقي العلاج في الخارج.. ومن لجنة إلى أخرى، ومن هذا المكان إلى ذاك، من دون فائدة أو قرار نهائي، وبعد مضي زمن على هذه الحالة التي مرَّ بها، وبورقة صغيرة وتوقيع أصغر من هذا المرشح أتته الموافقة مباشرة.. وتم إيفاده للخارج من دون تعطيل.. لذا، يرى أنه من الناحية الأخلاقية لا يستطيع نكران جميل الصنيع من هذا المرشح، ولهذا أعطاه صوته في الانتخابات تلك.. واستمرت عملية هذه السياسة كورقة تنفيع سياسية يتم استخدامها لكسب الولاء لهذا الطرف أو ذاك، وكلما زاد الصراع السياسي ارتفعت قائمة المبعوثين للعلاج في الخارج على حساب الدولة.. وبموجب التوصيات، نجد كلمة «لا مانع» هي الساندة والمستمرة لدى عدد من المسؤولين السياسيين.. لا مانع كتابة أو شفاهة، وعلى الآخر تنفيذ الأمر.. نوع من الكلمة السرية والسحرية المتفق عليها.
وسيلة ناجحة
منذ سنوات قليلة زاد التوتر السياسي والشد والجذب والتنافس لدى أطراف من السلطة نتج عنه سحب وجذب المريدين لهم في السلطة التشريعية بكافة الوسائل المتاحة، أولاها المال النقدي، عن طريق الإيداعات، ومنها أيضا «العملة» القديمة التي بدأت عام 1975، أي «عملة العلاج في الخارج»، كوسيلة ناجحة للاستقطاب وكسب المريدين لأعضاء مرشحين لمجلس الأمة.. التنفيع بأعلى مستوياته، في ظل تنامي المنافسة السياسية والاستقطابات وكسب المؤيدين.
وكما هي الحالة السياسية الحالية المعتمدة على كافة أشكال التنفيع، إن كان ماليا مباشرا أو خدماتيا، يبدو أن الظاهرة وصلت إلى حد الطفح في المصاريف.. فمخصصات مريض واحد مع مرافقين من أقربائه قيمتها 300 دينار يوميا، وعلى افتراض مكوث أحد المرضى عشرة أيام للعلاج في الخارج، فإن المبلغ سيكون ثلاثة آلاف دينار كلفة المريض ومرافقيه.. حوالي سبعة آلاف وثمانمائة يورو.. وهو مبلغ ضخم على مستوى الدول الأوروبية ذات المعيشة المرتفعة، كباريس وألمانيا.
فيضان الكيل
مبلغ يسيل له اللعاب، ولم يثر العجب خبر أوردته إحدى الصحف اليومية عن حادثة تشاجر وضرب بين أخوين يريد كل واحد منهما أن يكون المصاحب لوالدهما لتلقي العلاج في الخارج.. مشاجرة وصلت إلى مخفر المنطقة، وكلا الأخوين لا يكترث لأمر والدهما في مرضه عند وجوده في المستشفى في الكويت، فالمخصصات أعمت قلبيهما وأسالت لعابهما.. ومع فيضان الكيل التنفيعي اتخذ مجلس الوزراء قراره بخفض مخصصات المبعوثين للعلاج في الخارج بنسبة عالية، وصلت لما يقارب 42 في المائة، وحرمت المرافق الثالث من أي مخصصات، والسبب الأساسي لهذا التخفيض، هو زيادة جرعة التنفيع عن حدها.. نوع من تقنين حالة الاستقطاب أو التقليل من استخدامه.. فأي دولة محترمة تهمها ميزانيتها، وتحافظ على مستوى معيَّن عند وضع محددات مالية – كما كان الأمر لدينا في السباق قبل التعديل – تضع دراسة نابعة من معرفة مستوى الحياة في بلاد تلقى العلاج من حيث مصاريف السكن والمواصلات والمعيشة اليومية والاحتياجات الضرورية للمريض والمرافق، والتي على أساسها يتم تحديد المخصصات.
ومن ناحية أخرى، فإن خفض المخصصات يجب أن يكون نابعا أيضا من دراسة عن كافة الأحوال المعيشية والمستلزمات اليومية في الدول التي يتم إرسال مرضى إليها، ولكن يبدو أن نقاش السلطة التنفيذية العليا لا يختلف عن نقاش الديوانيات.. كمن يقول «جنه المبلغ وايد»، أي كأن قيمة المخصصات عالية! ليرد الآخر «أي والله وايد عليهم اشدعوه هالمخصصات؟».
وبناءً على هكذا نقاش يتم اتخاذ القرار.. لا أقل ولا أكثر من ذلك.. فعندما تتحوَّل الخدمات الصحية إلى نوع من أنواع التنفيع، فإن قراراتها تخرج بهذا الشكل، سواء في المجال الصحي أو غيره من المجالات الأخرى.