
إن المقومات والركائز الرئيسة لحل أي معضلة، أو قضية وإشكال، حلاً صحيحاً وجذرياً، هي التفكير بموضوعية وحيادية تامة بجوهر الموضوع ومسبباته، وليس بنتائجه فقط، التي قد تكون ردود الأفعال حوله متفاوتة وفق حالة التأثر والوعي من شخص إلى آخر.
ولهذا، نجد مثلاً أن القاضي العادل عندما يحكم في قضية لا ينظر إلى أطراف القضية بشخوصهم ولا بإعجابه بأحدهم أو كرهه للآخر، بل نراه يبحث ويتحقق في الدعوة بعمق، ثم يحكم حكمه العادل، بغض النظر عن المستفيد من حكمه، وهذا هو العدل الذي هو أساس الحكم الرشيد الذي نفتقده، وللأسف الشديد، من سلطتنا غير الرشيدة بتناولها القضايا ومعالجة مشاكل الوطن المتكررة، والتي غالباً ما تكون هي المتسبب الرئيسي لها والمفتعل لأحداثها.
وهذه، بطبيعة الحال، نتيجة لعدم إيمانها المطلق بالدستور وانعدام الرغبة بتفعيله كاملاً، كما أنها تتعاطى مع الأحداث بردود أفعال تسودها الشخصانية بالتفكير تجاه القوى المعارضة والمحتجة على أي تعدٍ على الدستور أو انتقاص من الحقوق أو محاربة فساد، كما أنها أيضاً، أي السلطة، تشوه حقيقة الحدث، وتصفه وتتهم رموزه وقواه بتهم كثيرة ومتعددة من دون أن تفصح عن تفاصيل ووقائع التهم، ولسبب بسيط جداً، وهو أنها الملفق لهذه التهم، وتتعمَّد خلق تكتلات اجتماعية تقوم على مكونات مجتمعية، وتتحالف معها مرحلياً للاستعانة بها لصد وتقويض قوى الإصلاح الوطنية المطالبة بتقويم الأخطاء وتصحيحها لمصلحة الوطن والأمة.
ففي أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، اتجهت السلطة، وعن عمد وقصد، إلى التجنيس السياسي، حيث رأت انسجام غالبية أفراد الشعب الكويتي مع تطلعات أطروحات ومطالب القوى الوطنية والديمقراطية الإصلاحية والداعمة والمطالبة بتفعيل الدستور المتفق عليه، فكلفت رجالاتها وأعيانها القيام بتجنيس أعداد كبيرة من مكوناتهم من كل الدول المجاورة للكويت، حتى يشكلوا ثقلاً انتخابياً كبيراً يحد من قدرة القوى الوطنية على الوصول إلى سدة القرار في التشريع والرقابة، وقد نجحت إلى حد كبير بهذا التوجه.
وقامت تلك السلطة، وبإدراك تام منها، بالتدليس والتزييف بأسماء المتجنسين من قِبلها، واعتمدت على الكشوف المقدَّمة من رجالاتها وممثليهم من دون أي تدقيق في البيانات والتأكد من صحتها، فمن يتحمَّل هذه المسؤولية؟ المدلس باسمه من دون إذن أو المدلس والمصادق على ذلك؟!
واعتمدت السلطة على تلك الفئة الجديدة من المتجنسين، ومنحتهم كل حقوق المواطنة، من العمل والسكن والتعليم والتطبيب والمشاركة السياسية الكاملة، بل وأوصلت بعضاً منهم إلى البرلمان، ومنحت بعضهم الآخر مناصب قيادية بارزة.
واليوم، بعد أن برز من أحفاد وأبناء تلك الفئة المتجنسة، مواطنون غيورون على وطنهم، وانضموا إلى ركب الإصلاح، بدأت السلطة في التهديد والتلويح والتلميح بسحب الجنسية منهم، فأي تخلف هذا، وأي ردة، وأي تراجع؟!
الكويت، يا سادة، وبصريح العبارة، وطن وليست عزبة لأحد أو لأسرة، ولا هي ملكية خاصة.. فإلى أين سيأخذنا هذا التصرف الأهوج غير الحكيم ولا الرشيد؟! وماذا تريد السلطة بفعلتها هذه؟ هل ستطوع الناس وتجعلهم يخرسون عن قول الحق والوقوف معه، وهم يشاهدون الفساد المتفشي بالوطن؟ هل تتوقع السلطة أنها بهذا التصرُّف الأخرق ستمنع المطالبة بالتنمية وإصلاح الفساد وإيجاد البدائل الاقتصادية الآمنة التي تضمن ديمومة الوطن وتطوره وهم يشاهدون ويسمعون العجز في الميزانية في المستقبل المنظور؟
وهل تتوهم السلطة أنها بتصرفها هذا ستجعل الناس صامتة ولا تطالب بإنقاذ الوطن، وهم أول من سيطالهم أثر الغرق، باعتبارهم يقطنون بدن السفينة وليس سطحها؟!
إن الحل ليس بالبحث عن ضحايا و«أكباش» فداء، وليس هو بالترغيب أو الترهيب، إنه حل واحد لا ثاني له، يكمن في الاحتماء بهذا الشعب العظيم، لا بمخاصمته، وبالاستماع إلى مطالب أبناء الوطن المخلصين، وتبني أفكارهم ومشاريعهم الإصلاحية والتنموية المستقبلية.
إن الحل، وخير الحلول وأسلمها، في الالتزام بالدستور، وتفعيله كاملا، والتيقن بأن الكويت تمتلك شعباً نادراً وفياً، بكل مكوناته وأطيافه، من المؤسسين الأوائل والمنتمين له لاحقا، وله مواقف مشرفة كثيرة في جميع المراحل والمحن التي مرَّ بها الوطن، ولا يزال يجسّد أروع صور الإخلاص والحب والولاء للوطن، بغض النظر عن بعض التصرفات الفردية التي تبناها بعض الطائفيين والعنصريين والقبليين أو الفاسدين، مالياً أو سياسياً، وهي لا يمكن أن تكون مقياساً عاماً، إلا لمن أراد أن يستغلها لتشويه الآخر.
لقد آن الأوان للرجوع لهذا الشعب، والاعتماد عليه، وتحميله المسؤولية الكاملة التي كفلها له الدستور، وآن الأوان للذهاب إلى شعبية الوزارة، لتتكون من كفاءات وطنية لإبعاد المؤزمين، الذين كان شغلهم الشاغل خلق صراعات زائفة بين أبناء الأسرة الحاكمة، على أن يقتصر دورهم بما هو مناط بهم بالحكم، كما نص عليه الدستور بالأسلوب والشكل الذي توافق عليه أهل الكويت من المؤسسين الأوائل وفق ما تشير إليه المادة الرابعة من الدستور.
إن العودة للحق وللصواب، وتطبيق القانون، لا تعني أن تبدأ السلطة بالبحث في ملفاتها القديمة، لعلها تجد ما تحاول الاستقواء به على الشعب، لأن ذلك سيفتح أبواباً لا قدرة للسلطة على سدها، فحجة تطبيق القانون على الجميع، الكبير قبل الصغير، أمر مشكوك فيه، ويستحيل على السلطة تطبيقه، لأن المتورطين والمدانين بمخالفات جسيمة كثر، وجلهم أقطاب نافذة، سواء في الأسرة الحاكمة أو حلفائها الذين لهم مصلحة مشتركة في محاربة قوى الإصلاح الوطنية.
إن تطبيق القانون أمر مستحق ومطلوب تفعيله من دون أدنى شك ومن دون مزاجية وانتقائية، ولكن، لأن «الشق عود»، كما يُقال، والمناخ العام، والأجواء السياسية والاجتماعية مشحونة ومليئة بالاحتقان، فإن ذلك يتطلب، كما طرحنا في أكثر من موقع ومناسبة، توفير الأجواء الصحيحة والمناخ المناسب لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، مبنية على مشروع وطني مستحق يحقق الانتصار للوطن وللأمة، وليس لأشخاص أو فئات أو أقطاب، فيجب أن يكون الهدف المنشود هو الوطن، لا غيره، بمشروع يستوعب ويجد نفسه فيه كل مكونات المجتمع على مبدأ الشراكة الوطنية العادلة، وليست المحاصصة الاجتماعية .