
قراءة: عبد الله التميمي يقدم الدكتور والاقتصادي عطية الظفيري ترجمة قيمة لكتاب نقدي مهم يتحدَّث عن الرأسمالية والانهيارات المالية، حيث ترجم كتاب «الأزمة المالية العالمية» للأميركيين جون بيلامي فوستر أستاذ الاقتصاد في جامعة أوريغن، وفرد ماغدوف أستاذ علوم الأرض في جامعة فرمونت.
وتميَّز الكتاب برؤيته النقدية، نقد للنظام الرأسمالي ذاته، وإبراز تناقضاته، وأنه بنظامه ومبادئه سبب الأزمة المالية العالمية، وأنه بفلسفته الطبقية نظام مسبب للركود الاقتصادي، حيث تستغل الطبقات العليا الطبقات الدنيا، ويتراكم الإنتاج بشكل خيالي في السوق المفتوحة، لتسابق الرأسماليين على الأرباح، حتى إذا قلَّ الاستهلاك، ولم توجد أسواق جديدة، وقع الاقتصاد في ركود عميق، وربما في كساد كبير، كالذي حصل في عام 1929 إلى بداية الثلاثينات.
وعلى الجانب الآخر، ركز المؤلفان على ما تمَّ الاصطلاح على تسميته بنظام «الأمولة»، حيث إن النظام الرأسمالي كان يعتمد على التمويل، كخادم للإنتاج، وهي معادلة الفيلسوف الألماني كارل ماركس (M’-C-M)، حيث نقود = M، سلعة = C، وتكون المعادلة نقود – سلعة – نقود، وأن (M) هي رأس المال المستخدم لشراء المواد الأولية والآلات لإنتاج السلعة، و (C) هي السلعة التي يتم بيعها، و(M’) هي الأموال الأصلية، يضاف إليها فائض قيمة العمل أو «الأرباح».
ولكن «الأمولة»، هي المعادلة الأخرى لماركس أيضاً، وهي (M-M’)، وهي تكوين المال عن طريق المال نفسه، وعن طريق عمليات المضاربة المختلفة والتوسع في عمليات الاقتراض، حيث تأخذ البنوك الأموال المودعة لديها، وتعطيها للمقترضين، ثم تسترد تلك الأموال من المقترضين مع الفائدة، وتدفع جزءاً من تلك الفائدة للمودعين.
والأمولة والركود جناحان لا يفترقان عن النظام الرأسمالي، سيجعلانه ينتقل من كساد إلى كساد، ومن أزمة إلى أخرى، وفق رأي جون فوستر وفرد ماغدوف، ويشاركهما بقية الاشتراكيين في العالم.
امتداد للاشتراكية
جون فوستر وفرد ماغدوف كلاهما امتداد للفكر الاشتراكي، وهذا غير خفي في الكتاب، فقد اعتمد الكتاب بشكل شبه كلي على أطروحة بول باران، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، وبول سويزي، أستاذ الاقتصاد في هارفارد، بعنوان «رأس المال الاحتكاري» عام 1966، وهما اللذان قالا في أطروحتهما إن «الحالة الطبيعية لاقتصاد رأس المال الاحتكاري هي الركود»، وقدما قراءة نقدية وافية للنظام الرأسمالي، كانت سبَّاقة في وقتها، إلى جانب مقالات هاري ماغدوف وبول سويزي المهمة، وهؤلاء كلهم من أبرز الماركسيين طبعاً. وأكثر كذلك المؤلفان النقل عن بقية الماركسيين القدامى، ككينز وكالتسكي، وطبعاً كارل ماركس.
ولم يكتفِ المؤلفان بالنقل المكثف عن الماركسيين واستخدام أدوات ومفاهيم الفكر الماركسي في البحث، بل ختما الكتاب النقدي بوضع الحل الذي يريانه مناسباً للمجتمع والاقتصاد، وهو «الاشتراكية»، حيث قالا: «من الضروري أن يفرض الشعب سيطرته على اقتصاده السياسي، لاستبدال النظام الحالي للرأسمالية بنظام أكثر إنسانية يتسم بديمقراطية حقيقية سياسية واقتصادية، والتي ترتعد فرائص حكام العالم الحاليين منها ويشجبونها إنها: (الاشتراكية)».
الأسباب
وأرجع المؤلفان أسباب الانهيار المالي في النظام الرأسمالي إلى العديد من الأسباب، ومن أهمها «الديون الاستهلاكية»، واستفادة القلة الرأسمالية من استهلاك وإنفاق مَن هم في قاع الهرم، وأن القلة الرأسمالية تطمح بشكل دائم لزيادة أرباحها، عن طريق الزيادة في أسعار السلع، مع تثبيت الأجور للطبقة الدنيا، ومَن هم في قاع الهرم يبحثون عن الحفاظ على مستوياتهم المعيشية، ولو عن طريق الاقتراض، كمحاولة أخيرة يائسة، وهذا بالتزامن مع ثبات الأجور.. وإذا ما ثبتت الأجور وارتفع مستوى المعيشة يضطر هؤلاء الناس إلى إعلان إفلاسهم، وعدم قدرتهم على تسديد قروضهم، ولا يستطيعون شراء المزيد من السلع والمنتجات أو البيوت التي تهبط أسعارها، بعد استحواذ البنوك عليها، فيغرق الاقتصاد بركود عميق، ركود في زيادة إنتاج يقابله قلة استهلاك.
ومظاهر هذا الرأي كانت واضحة، حيث إن نسبة الديون الاستهلاكية في الولايات المتحدة ارتفعت من 62 في المائة من الدخل المتاح عام 1975، إلى 127 في المائة من الدخل المتاح عام 2005، وهذه الإحصائية في الولايات المتحدة، وطبعاً الدول الرأسمالية الأخرى لن يختلف الوضع فيها كثيراً.
وكان السبب الثاني للانهيار المالي، هو التوسع في المضاربات المالية المبنية على الديون، و«أن ضآلة فرص الاستثمار المربح هو السبب الرئيس وراء هذا الاتجاه»، والاستثمار المربح بالنسبة للمؤلفين وبقية الماركسيين هو الاستثمار الإنتاجي، وهو ما يسمونه «الاقتصاد الحقيقي»، وليس الاستثمار المبني على المضاربات المالية.
الإمبريالية
وكان القائمون على النظم الرأسمالية قد اختاروا طرقا عدة للتغلب على مشاكل الركود الاقتصادي وضعف السوق, ومن بين أهم تلك الأسلحة كان التوجه نحو استغلال الشعوب الأخرى وخيراتها ومواردها، ثم غزو أسواقها.
الإنفاق الحكومي
وإلى جانب التوسع الإمبريالي والاختراعات التكنولوجية، التي ساهمت في تحفيز الاقتصاد الرأسمالي، كان الإنفاق الحكومي من أهم أسباب تحفيز الاقتصاد الرأسمالي، وخصوصاً في الأزمات، وضرب المؤلفان أمثلة عدة، من أهمها الكساد الكبير، الذي حصل عام 1929، واستمر إلى الثلاثينات، حيث يقول المؤلفان: «الذي أنقذ الاقتصاد الأميركي من هذا الكساد كان التوسع الحكومي الهائل في الإنفاق العسكري خلال فترة الحرب العالمية الثانية»، والمثال الآخر «كان الإنفاق على الحرب الكورية هو المحرك الرئيس لخروج كل من ألمانيا واليابان من تحت الأنقاض»، وضربا أمثلة أخرى، كفيتنام ودعم إسرائيل المستمر، والحرب العراقية والأفغانية.
الديون والمضاربات المالية
وكان السبيل الأخير بالنسبة للنظم الرأسمالية، هو كما سبق وذُكر، التوسع في عمليات المضاربة والديون، بعيداً عن التصنيع والإنتاج الحقيقي، حيث إن قطاع التصنيع بدأ في الانحدار منذ عام 1965، وذلك على حساب أرباح القطاع المالي غير المنتج، حتى إنه في عام 1965 كانت أرباح القطاع المالي في الولايات المتحدة 15 في المائة من الناتج المحلي، فيما كانت أرباح قطاع التصنيع تبلغ 50 في المائة، وانعكست الحال في عام 2005، ليرتفع القطاع المالي إلى 40 في المائة، ويقل قطاع التصنيع إلى 15 في المائة، بسبب التوسع في الديون والمضاربات المالية، حتى إنه «بحلول عام 2005 بلغ إجمالي الديون الأميركية ثلاثة أضعاف ونصف الناتج المحلي الإجمالي للأمة الأميركية»، كنتيجة لتلك العمليات، وهذا يشمل جميع أنواع الديون، وقد دعم هذا التوجه مجلس الاحتياط الفيدرالي، كرد فعل للانهيار في أسواق المال، وخفض نسبة الفائدة، لتفادي الركود، كما هو اعتقاد القائمين عليه من «النيوليبراليين» ومن «المدرسة النقدية» التي تؤمن بضخ المزيد من النقود، لتفادي الأزمات وتنشيط الاقتصاد، ما أدَّى إلى ارتفاع عمليات الإقراض، ومنها عمليات الإقراض الخاصة بالمنازل والرهن العقاري، والتي كانت بعد ذلك جزءاً رئيساً من الانهيار المالي عام 2008، وكان هذا سبباً في انهيار الكثير من الأسر الأميركية، بسبب تلاعب تلك الشركات المالية، وتوسعها في عمليات المضاربة المالية والديون، بهدف تحقيق أعلى ربح ممكن ومن دون إنتاج حقيقي، وبدعم حكومي، حتى قالت مجلة بيزنس ويك: «في هذه اللعبة يربح كل لاعب، ما عدا أصحاب المنازل»!
وكما ينقل المؤلفان قول الاقتصادي توبن إن «الرأسمالية أصبحت نظاماً غير فعال، حيث إنها كرَّست رأس المال الفائض في أنشطة المضاربة أو المقامرة، وليس في الاستثمار الطويل المدى في اقتصاد حقيقي».
تراكم البؤس والثروة
«تراكم البؤس شرط ضروري مصاحب لتراكم الثروة».. كلمة كارل ماركس هذه كانت تعبّر بشكل كبير عن سوء النظام الرأسمالي الاحتكاري، حيث إن البؤس كان محلياً وعالمياً.. ففي الولايات المتحدة وبشعارات «تتعلق بشكل وثيق بالرفاهية الأساسية للعائلة الأميركية»، وكانت نتيجة هذه الرفاهية هي الانهيارات المالية والركود، مقابل زيادة ثروات الرأسماليين.. ففي عام 2001 في الولايات المتحدة كانت «تمثل طبقة القمة من المجتمع فقط نسبة 1 في المائة من مالكي الثروة المالية»، وكانت هذه الثروات على حساب الشعارات الوهمية للعائلة الأميركية، لإغرائها بمزيد من الاقتراض والديون الاستهلاكية.
وهذا يشمل حتى الاقتصاد العالمي، حيث إن اقتصاد 5 من الدول الكبار يعادل اقتصاد العالم كله، ويرجع ذلك للتوسع الإمبريالي لهذه الدول.. فمع تصاعد اقتصاد هذه الدول يزداد بؤس دول أخرى تم استغلال مواردها، ودعم هذا التوجه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، حيث إن «هذه المنظمات تخضع لنفوذ الدول الإمبريالية الكبرى وتلبي مصالحها الاقتصادية. وتعد سياسات تلك المنظمات انتقائية، حيث يتم تطبيقها، شريطة ألا تتعارض مع مصالح رأس المال الأميركي، الذي يقوم على استغلال الشعوب الفقيرة في العالم»، وتصاعدت الإمبريالية بشكل مكشوف أخيراً باسم «محاربة الإرهاب»، «فإن الدعم الكبير يتمثل بالقوة العسكرية في الدول الرأسمالية المتقدمة، ولاسيما الشرطي الأميركي الذي يتجاوز إنتاجه لوسائل الدمار كل القوى الإمبريالية مجتمعة»، وكما نشاهد ذلك في «التوسع في نشر القواعد العسكرية الأميركية عالمياً».
التداعيات
رغم الانهيار المالي، الذي حدث عام 2008، فإن «هناك شيئاً لا ريب فيه، وهو أن مصالح الرأسماليين الضخمة أصبحت في وضع جيد نسبياً، يسمح لهم بحماية استثماراتهم»، «وقد اعتادوا على الدوام الطلب من الحكومة لإنقاذهم، والرأسماليون لديهم سبل لا تعد ولا تحصى لتحميل تكاليفهم إلى مَن هم أقل منهم على السلم الاقتصادي، وستقع الخسارة على كاهل صغار المستثمرين والعمال والمستهلكين، وستمتد إلى اقتصادات دول العالم الثالث».
وتداعيات الأمولة والركود عميقة في النظام الرأسمالي، حيث إنها تسبب «وباء للرأسمالية الناضجة من أعراضه: النمو البطيء، والإفراط في الإنتاج الذي يتجاوز الطاقة الاستيعابية، ورفع معدلات البطالة، وهذه الأعراض ذات مدلولات واضحة في مراحل تطور النظام».
فخ السيولة والحلول الترقيعية
ومن المشكلات التي يواجهها النظام الرأسمالي، حتى بعد أن يلجأ للحل الحكومي وزيادة الإنفاق، «أن البنوك والمشاركين الآخرين في السوق سعى كل منهم إلى الاحتفاظ بالأموال النقدية، كصمام أمان.. لذلك مهما ضخ بنك الاحتياط الفيدرالي من أموال نقدية، فالإخفاق مصيرها، وستفشل في تحفيز عمليات الإقراض»، بسبب خوفهم من الاستثمار في ظل الأزمة المالية. ويقول المؤلفان إنه «في هذه الأزمة المتفاقمة ما إن تجد حلا ترقيعياً لأحد جوانبها ما تلبث ألا تجد حلاً لجوانب متعددة أخرى منها»، وهذا من دور الدولة في هذا النظام، كملاذ أخير، بل أحياناً يكون الحل النهائي هو التأميم المباشر، كما يذكر المؤلفان ذلك.
وينقلان عن رئيس بحوث الائتمان في البنك الألماني جيم ريد قوله «الفكرة المخيفة، إن صحّت، فإنها ستؤدي إلى فترة طويلة من التدخل المتواصل من قِبل السلطات الحكومية، في محاولة لوقف هذا التدمير المحتمل».
الرأسمالية والطبقية
ويرى المؤلفان أن كل ما ذكر هو من الأسباب الظاهرة والتداعيات الناتجة التي نراها، ولكن السبب الرئيسي الكبير يكمن في النظام الرأسمالي نفسه، واعتماده على الاستغلال الطبقي، وهذا الرأي طبعاً يتشارك به المؤلفان مع بقية الماركسيين.
وحاول المؤلفان التأكيد على ذلك باستعراض أرقام الحرب الطبقية التي شنها الرأسماليون على العمال في السبعينات في الولايات المتحدة، حيث تم خفض الرواتب وتجميدها، رغم زيادة الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة، حيث إن الإنتاج المحلي كان يرتفع كل سنة، بمقابل ثبات الأجور، ما يعني أن الثروة تتجه للطبقات العليا الرأسمالية، والتي هي قلة قليلة من الشعب، حيث إنه في «الفترة بين عامي 1950 و1970 كان لكل دولار إضافي يحققه أولئك الذين في قاع الهرم الذين يشكلون 90 في المائة، وهم من أصحاب الدخول الدنيا، كان أصحاب القمة الذين يشكلون نسبة 0.01 في المائة يتلقون 162 دولاراً إضافياً»، وارتفعت النسبة بشكل مهول منذ سنة 1990 إلى 2002، حيث إنه مع كل دولار يحققه هؤلاء الـ90 في المائة في القاع، كان الـ 0.01 في المائة يحققون 18000 دولار إضافي، وأصبح ما يملكه نسبة 1 في المائة من الطبقة العليا في الولايات المتحدة أكثر من ضعفي جميع ما يمتلكه نسبة 80 في المائة من الطبقات الدنيا!
وانعكس هذا على الاقتصاد عموماً، وأدخله في ركود منذ السبعينات، وانخفضت معدلات النمو الاقتصادي «الحقيقي» التصنيعي في الولايات المتحدة بشكل كبير.
لذلك، وكما ذكرنا مسبقاً، ختم المؤلفان الكتاب، بتحميل النظام الرأسمالي مسؤولية الانهيارات المالية، وأنه نظام قائم على الاستغلال الطبقي، وأن الحل في الماركسية، التي هي برأيهم «أكثر إنسانية»، وتتسم بالديمقراطية الحقيقية على الصعيدين السياسي والاقتصادي.