
يشكّل الإعلام اليوم، بوسائله المختلفة، وعلى رأسه الإعلام المرئي، أدوات فاعلة ومؤثرة في محاولة ضبط إيقاع تفكير الأفراد والمجتمعات، بل وسلوكها، وهو ما يؤثر في منحى تطورها، إيجابا أم سلبا، بما يشكله من عملية اتصالية شبه دائمة، وإن كانت موجهة وغير تفاعلية حقيقة، لأنها لا تخدم تبادل الأفكار والمعلومات، بل إن تلك الأفكار والمعلومات تأتي من طرف واحد، والطرف الآخر يشكل جهاز تسجيل مستقبلا فقط.
يستخدم التلفاز الحواس الأكثر أهمية عند الإنسان النظر والسمع، ويستخدم الصوت والصورة كعوامل مؤثرة فيها، وذلك دونما إبداء أي جهد عقلي وذهني أو عضلي عند المتابعة، وهذا ما يدفع للجلوس ساعات أمام الشاشات.. وهكذا تسرق حياة الناس بصمت، دونما إحساس بذلك, والأخطر أنه تسبب في تشكيل آراء ومواقف تابعة، أي تعكس ما يقوله «مرشدو التلفاز», ما جعل الكثيرين يحملون «رؤوس تلفزيونية» على أكتافهم تعكس ما يطرحه لهم التلفزيون من وجبات آراء وأفكار ومعلومات وأخبار، من دون أن يكون لهم أي دور انتقائي وتحليلي في ذلك.. فرؤوسهم لا تفيدهم في الحقيقة، إلا خدميا، أي في التوجه الجغرافي، ليس إلا، حيث إن الإعلام يوجههم حتى في ما يأكلون ويشربون ويلبسون، ما أفرز ما نسميه بالتفكير التلفزيوني أو الرأي التلفزيوني، فضلا عن مخاطره التي تستهدف الناشئة، ومنها استيراد معظم برامج الأطفال التعليمية والترفيهية، فنحن غير منتجين لها، وهكذا يكون التعليم الذاتي للأطفال والشباب مهددا بشكل مباشر، وما يزيد الطين بلة ارتياح كثير من أولياء الأمور بحجر أبنائهم أمام شاشات التلفاز وعدم خروجهم مع أقرانهم، خوفا عليهم من الشارع، وهو ما يشكل بحد ذاته خطرا على تكوين الشخصية الاجتماعية للأطفال، فنجدهم يميلون أكثر فأكثر للعزلة.. كما أنه يسرق جزءا من طفولتهم، التي لابد أن يمارسوا فيها شتى أنواع اللعب، بما فيها صنع بعض ألعابهم بأيديهم، والذي بدوره يساعد على تنمية التفكير عند الأطفال وتوسيع خيالهم، والبديل هنا وجود ساحات للعب لا يتعرَّض فيها الأطفال لخطر الشارع.
وبما أننا لا نستطيع الاستغناء عن التلفاز وأخواته في حياتنا على الأقل الآن، فقد أصبح التلفاز فردا مهما من تعداد عوائلنا، من دون أن يكون لنا رأي في ذلك، وأصبحت برامجه المختلفة «غذاء» للعقول وبوجبات متكررة، وأحيانا مستمرة يوميا، فيصوم ويفطر عليها الكثيرون.. فما علينا إذن إلا البحث عن آلية تصويب مسار هذه الآلة الإعلامية المؤثرة، لتكون مصدرا جميلا للأدب والفكر والأخلاق والعلم والمعرفة، ولتكون أكثر متعة، وخاصة عند أولئك الذين يلقون بالكتب عند انتهاء الفصل الدراسي، ليشاهدوا التلفاز، الذي هو أسهل وأكثر متعة لديهم.
فدور وسائل الإعلام، وعلى رأسها التلفاز، يشكّل مصدرا ثقافيا ورافدا تعليميا مهما, بل أساسيا، بما له من تأثير مباشر وقوي على الأفراد, لكن يظل انتقاء القناة والبرنامج الهادفة مفيدا بتثقيف أصحاب التفكير التلفزيوني وفي إعادة البوصلة، ولو نسبيا.
لا ننكر أن للتلفاز دورا مهما في نقل المعلومة والخبر السريع، إلا أنه لا يمكن بلع كل ما ينتج عنه على أنه حقيقة مطلقة، من دون تحليل وتمييز. إن استقاء المعلومات من التلفاز، كمصدر للمعلومة، أمر غير صحيح في العموم، بل يجب أخذ المعلومة من مصادرها الطبيعية، إلا في حال نقلها عن طريق مؤهلين ثقات.
وفي ما يخص الخبر، فقد يكون التلفاز مصدرا للخبر السريع، إلا أنه يجب أيضا تحري الأخبار الصحيحة من مصادرها الموثوقة وفلترة كل ما نسمع ونرى، معتمدين في ذلك على المعرفة والخبرات السابقة، وكذلك معرفة معلومات كافية عن أي دار إعلامية نتابعها، لأن لكل دار إعلامية أجندتها وسياستها التي تخدم مصالحها الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، ويقوم عليها غالبا أناس مؤهلون في التسويق الإعلامي الذي يستهدف شرائح مختلفة من المجتمع لأهداف وأغراض مختلفة أيضا، فالمتابع الجيد يستطيع تنقيح ما يسمع ويرى، والخطر إنما هو على أولئك الذين يبلعون أي خبر ومعلومة مصدرها تلفزيوني، وهكذا يتشكل لديهم تفكير تلفزيوني.. «آمين».
وأخيراً، فإن الميديا، ومنها التلفاز، بما لها من أثر بالغ على الدين والقيم المجتمعية والأيديولوجيا وتفكير الأفراد ومواقفهم، بل في تكوين سلوك مجتمعات بأكملها، لابد أن تكون تحت إشراف مباشر من قِبل مؤهلين علميا لنشر الثقافة والمعرفة ونقل المعلومة الصحيحة، وثقات مشهود لهم بالنزاهة والغيرة على الأوطان والقيم المجتمعية التي تمثل هوية المجتمع.