
كتب محرر الشؤون المحلية:
عاد المراجع إلى الموظفة التي بدأت المعاملة عندها، بعد أن تم توقيعها من المسؤول الأعلى وعلى وجهها ابتسامة تحمل الانتصار والسخرية في الوقت ذاته، ونزعت عنها ابتسامتها مخاطبة المراجع بجملة مختصرة مفسرة تلك الابتسامة:
«ها.. دفعت؟!» المراجع لم يدفع رسوما أو طوابع أو ضريبة رسمية للترخيص لمصلحته الجديدة التي يريد أن يعمل بها، بل مبلغا ماليا بدأ بخمسة آلاف دينار لترخيص المكان ومزاولة النشاط، ومع الواسطات والمعرفة من هنا وهناك تم تخفيض المبلغ إلى ألف وخمسمائة دينار.. وبذلك وفّر على نفسه ثلاثة الآف وخمسمائة دينار، وفق الطلب القديم أو السعر المحدد سابقا.. فرح لهذه التنزيلات التي حصل عليها، وخاصة أنه صرف ديكورات وتجهيزات للنشاط الذي ينوي استغلاله… لم يجب على الموظفة رداً على سؤالها، فهو يعرف أنها تعرف، كما أنها تعرف ما قام به.. أنجز المعاملة، وحصل على الترخيص اللازم بعد طول عناء.
الأبواب المغلقة
شخص آخر يريد أن يكون أكثر شطارة، وأن يسلك الطريق القانونية في إنجاز معاملة فتح نشاط.. كلما ذهب من ناحية رسمية نحو باب ما وجده مغلقا، استمرت المراوحة ما يقارب السنة، والأبواب بقيت مغلقة بـ«الضبة والمفتاح» في وجهه لإتمام إنجاز المعاملة بصورة رسمية.. بعدها عاد للمربع الأول أو الطريق الوحيد السالك الذي فتح أمامه منذ ما قبل السنة، واضطر أن يدفع ألفي دينار لإنجاز المعاملة.. وبالحال أنجزت وبدأ نشاطه.
زبون آخر (عليه القيمة نوعا ما) طُلب منه لمنحه الترخيص ستة آلاف دينار، فجاهد لتخفيض المبلغ، وبكل أريحية شرح المسؤول الذي يتولى المعاملة بأنه لا يستطيع ذلك، فهناك آخرون معه، وإذا خفّض المبلغ، فسيكون ذلك من نصيبه، لينتفخ جيب الآخرين، وبذلك لم يكن أمام صاحب العلاقة سوى الدفع أو إيقاف الترخيص.. فاضطر بالنهاية للدفع، فهي العملية الوحيدة السالكة، بغض النظر عن تغيير شكل ولون العملة الرسمية.
.. والجمعيات أيضاً
لا ينحصر الأمر على الأفراد أو أصحاب المصالح فقط، بل حتى الجمعيات التعاونية تنالها مقصلة الدفع لإنجاز أمر ما.
إحدى الجمعيات التعاونية جيدة الأداء تريد فتح طريق من مواقفها نحو الطريق الرئيسي، لتسهيل عملية خروج السيارات من الموقف، طريق يزيد قليلاً على العشرة أمتار.. حاولت جاهدة الحصول على الترخيص، ولم تستطع، إلا بدفع ألف وخمسمائة دينار، للحصول على ترخيص فتح الطريق، وكان لها ما أرادت.. والعملية فيها من الحذاقة الكثير، فلابد من إيجاد الموانع والإعاقة في إنجاز المعاملة.. فمن دون عوائق لا يمكن الحصول على «المقسوم»، وعلى طريقة كرة الطائرة، لابد من وجود لاعب يرفع الكرة والآخر «يكبس»، ولكن في دفع المقسوم الأمر يختلف، فلابد من عرقلة المعاملة، ليأتي باب الدفع وأنت صاغر وممتن بأن كان هناك تخفيض للمبلغ.
صاحب نشاط كبير كان الطلب يوازي مع ما سيقدم عليه من نشاط، طُلب منه خمسون ألف دينار.. فالناس مقامات والأنشطة كذلك.
ظاهرة متفشية
هذه الحكايات ليست «عنعنات»، بل من أصحاب العلاقة ذاتهم، كما أنها ليست حالات فردية أو ظاهرة محدودة، بل غدت شبه عامة في المجتمع وفي الدولة.. ولهذا ليس غريبا إلقاء القبض على ما أطلق عليهم «عصابة» إصدار التراخيص الطبية للعاملين في المطاعم الأسبوع الماضي.. فهم ليسوا عصابة، كما وصفوا في الحقيقة، بل مخلصي معاملات تجرى على قدم وساق.. وهكذا أتى مانشيت «القبس» يوم الأربعاء الماضي.. «عمالة فاسدة تغزو المطاعم»، وتحتها «ادفع 200 دينار واحصل على لائق صحياً مزورة»، وكادت «القبس» تشير أيضاً إلى «مقابل عشر شهادات صحية مزورة تحصل على واحدة مجاناً»! فكلما كان هناك تخفيض في الحصول على «المقسوم»، تكون الفرصة أكبر للحصول على مجانية الشهادة الصحية!
المقدمات والنتائج
كيف تم الكشف عن هذه الظاهرة التي يتحدَّث عنها الجميع من دون استثناء.. ظاهرة الفساد والرشوة وتعطيل المعاملات؟
الجواب في الحقيقة، أنه عندما تصبح «المادة» هي القيمة الاجتماعية الأولى، والتي تفرد لها المجالس و«ترتز» في صدر المجلس، حتى لو كان الشخص المعني محولاً للنيابة بدعوى الاختلاس البيّن، فإن الجميع يحاول أن يسلك الطريق ذاته، عندما يتم تهريب أحد المتهمين بسرقة الناقلات إلى الخارج من دون عقاب تكون النتيجة على هذا الشكل في المجتمع.. عندما ينجو سرّاق الاستثمارات الخارجية من دون مساءلة أو استدعاء جبري تصل النتيجة في النهاية إلى هذه العوارض المرضية.
عندما تتضخم حسابات بعض النواب ومعروف تماماً من دفع لهم، كما هو معروف من تلقى تلك الأموال، وبعد مُضي سنوات منذ أن كشفت «القبس» هذا الموضوع لايزال أعضاء المجلس يبحثون هذا الأمر، والأدهى أن يكون أحد أعضاء لجنة البحث واحدا ممن تلقوا الأموال النقدية! فهل هناك منظر أو وضع سوريالي أكثر من ذلك؟ عندما يستقيل وزير خارجية، لأنه علم بأنه لا يعلم عن أمر التحويلات في الخارج ولا توجد مساءلة وسار الموضوع وكأن الأمر عادياً ولا يستحق التوقف عنده.. فإن النتيجة ستكون هكذا!
مع كل هذه القصص والحكايات والفضائح، ماذا نتوقع أن يصيب المجتمع وكيف لا تتفشى الرشوة والفساد؟!
لذا، من غير المستغرب أو المثير للامتعاض دفع المقسوم لإنجاز أي معاملة، كما أنه من غير المستغرب الحصول على شهادات مزورة، مادامت حتى الشهادات الجامعية تزور.. ولايزال «الحبل متروك على الغارب» والمركب سمّاري من دون دفة أو شراع.