
كتب محرر الشؤون الاقتصادية:
تواصل «الطليعة» تناول ملف قطاع النفط الكويتي والثروة النفطية في البلاد، وتريليونات الدولارات التي جنتها الكويت منذ اكتشاف هذه الثروة، ولم تستفد منها بالشكل الأمثل حتى الآن، ما جعلها تتخلف كثيرا عن جاراتها من دول الخليج.
لقد حقق القطاع النفطي الكويتي في العقود التي أعقبت اكتشاف البترول في البلاد تقدما كبيرا، وكان القطاع النفطي الكويتي رائدا على كافة الأصعدة، سواء في الاستكشاف، أو الإنتاج، أو التكرير، وأسست الكويت الشركات النفطية، شركة تلو الأخرى، وتخصصت كل شركة في مجال من المجالات النفطية، وحققت هذه الشركات تقدما متلاحقا، حتى جاء تأسيس مؤسسة البترول الكويتية (KPC) في 27 يانير 1980 كشركة أم تضم جميع الشركات النفطية الكويتية، ولكن في العقدين الماضيين تبدلت الحال، وأصبح قطاع النفط الكويتي يسير بتخبط كبير، وظهر هذا جليا في الكثير من المشروعات النفطية التي كانت تطمح الكويت إلى تنفيذها، وتراجع هذا القطاع كثيرا، مقارنة بنظرائه في الدول الخليجية المجاورة، وتسبب التخبط الذي سيطر على هذا القطاع في خسارة الكويت مليارات الدولارات، سواء في مشاريع نفطية تعطلت، أو نتيجة قرارات اتسمت بالغموض وعدم الشفافية، وليس أدلّ على ذلك من الغرامة التي دفعتها الكويت إلى شركة داو كيميكال الأميركية، والتي وصلت إلى 2.6 مليار دولار، بعد إلغاء عقد الشراكة بين الطرفين، كما تكبَّدت الكويت أموالا طائلة في الكثير من المشروعات النفطية، من دون أن تكتمل هذه المشروعات، ومنها مشروع مجمع بتروكيماويات الصين، مشروع المصفاة الرابعة، ومشروع حقول الشمال، والكثير من المشروعات الأخرى.
الحفاظ على الاحتياطيات
ووفقا لآراء الكثير من الاقتصاديين، فإن الثروة النفطية جاءت لتكون المنقذ الحقيقي للاقتصاد الكويتي، على الرغم من عدم استغلالها حتى الآن بالشكل الأمثل وبطريقة جيدة، بسبب سوء التخطيط وحالة التخبط التي تسيطر على القطاع النفطي، وسوء الإدارة والمحسوبية، وهذه عوامل جعلت هذا القطاع يتدهور بشكل كبير، ولا يتطور وفق المعدلات المتعارف عليها عالميا، وهو ما تسبب في إهدار الثروة النفطية للبلاد.. وإذا ما استمر النمط الحالي في إهدار هذه الثروة، فلن تكون الكويت قادرة على تحقيق أي شكل من أشكال التنمية، لأن عوائد النفط لا تمثل دخلاً بالمفهوم الاقتصادي، ولكنها بمثابة تحويل أصل وثروة تملكها البلاد إلى سيولة مالية، ومن هنا تأتي ضرورة التعامل الرشيد الحذر مع هذه الثروة، واستخدام الجزء الأكبر منها في بناء طاقات إنتاجية قادرة على توليد الدخول وبناء اقتصاد حقيقي، يتسم بالاستمرارية، إذ إنه في حال نفاد النفط – وهو سيحدث يوما ما- من دون خلق مصادر دخل أخرى، فإن الكويت ستعود كما كانت قبل ظهور النفط.
ويؤكد خبراء متخصصون في شؤون النفط، أن الـ 40 أو الـ 50 سنة التي تمثل عمر النفط المتبقي، هي مرحلة بسيطة جداً ليست ذات قيمة في عمر الشعوب والأمم، وأن الكويت لم تعمل طيلة العقود الماضية على إيجاد قاعدة إنتاج حقيقية بالمعنى الصحيح، وهذا الأمر ينطبق على الكويت بشكل أكبر، مقارنة بباقي دول الخليج، إذ عملت دول الخليج الأخرى خلال السنوات العشر الماضية على تنويع قاعدة الإنتاج، بعكس الكويت، التي ظلت تراوح مكانها.
ويؤيد البعض من هؤلاء الخبراء الآراء التي تطالب ببقاء الاحتياطيات النفطية مخزنة في باطن الأرض للأجيال القادمة، لأنها «سوف تحاسبنا»، وبعدم التوسع في عمليات الإنتاج، إلا بالقدر القليل، حيث إنه نظرا لحالة التردي التي تعيشها البلاد، وعدم الاستفادة من عوائد النفط في تحقيق التنمية، فمن الأفضل بقاء هذه الاحتياطيات في باطن الأرض، وإذا كانت الكويت ودول الخليج مطالبة بالتزامات تجاه العالم، لأن المنطقة لا يمكن أن تكون في عزلة عنه، فعلى هذه الدول أن تراعي أيضا الأجيال القادمة، مؤكدين ضرورة حصر الإنتاج على كميات تتوافق مع احتياجات البلاد المالية، مع استغلال أي فوائض، بحيث تصب في شرايين الاقتصاد الكويتي، وفي مشاريع تكاملية صناعية وزراعية وخدماتية، فالوضع الحالي لا يشجع على رفع سقف الإنتاج، والقطاع النفطي يواصل التدهور وسوء الإدارة والتخبط الذي يسيطر عليه منذ سنوات، وهذا الأمر أكدته الكثير من الجهات المتخصصة في النفط، وأكدته الكثير من التقارير الاقتصادية الخارجية والمحلية، حيث أكد تقرير لشركة بيان للاستثمار نشر في ديسمبر من العام الماضي، أنه لا أحد يختلف على أن الكويت تعد من أفضل دول العالم في الملاءة المالية، نتيجة العوائد الكبيرة التي تحققها من الثروة النفطية، إضافة إلى الفوائض الضخمة التي تسجلها الميزانية العامة للدولة سنة تلو الأخرى، إلا أنه مع كل ذلك، فقد تخلفت الكويت كثيراً، وأصبحت بين أدنى المراتب بين دول الخليج، نتيجة عدم الاستغلال الأمثل لتلك الثروة.
وقال التقرير «في الدول المتقدمة نرى أن حكوماتها تعمل على إعادة تدوير عوائدها المالية واستثمارها عبر ضخها بشكل مباشر في الاقتصاد، وهو الأمر الذي أدَّى إلى تحسين بيئة أعمالها، وساهم في زيادة تنويع دخلها من مصادر مختلفة، ما ينعكس إيجاباً على اقتصادها بشكل عام.. أما بالنسبة للكويت، فنرى أنها تعد من أكثر دول العالم اعتماداً على عوائد النفط، هذا بالإضافة إلى أن هذا القطاع يعاني الترهل وسوء الإدارة».
أمثلة للفشل والتخبط
المؤكد أن حالة الفشل وسوء الإدارة التي يعيشها القطاع النفطي تسببت في خسائر فادحة للكويت، وهناك الكثير من الأمثلة الصارخة التي تؤكد أن القطاع النفطي في الكويت يعيش حالة من الفشل والتخبط وسوء الإدارة، وهذه الأمثلة كلفت الكويت ملايين، بل مليارات الدولارات، وأول هذه الأمثلة، مشروع مجمع بتروكيماويات الصين، فهذا المشروع مثال واضح على سوء التخطيط والإدارة في القطاع، ومثال واضح أيضا على إهدار المال العام.
والحديث عن هذا المشروع الذي تعتزم مؤسسة البترول الكويتية، ممثلة في شركة البترول الكويتية العالمية، تأسيسه في الصين، يستحق العناء، فحجم الأموال المرصودة لهذا المشروع، وحجم الأموال التي أنفقت حتى الآن من دون نتيجة تذكر كبير، وإهدار كل هذه الأموال يُعد إهدارا صريحا للمال العام، وهذا الأمر أكده تقرير ديوان المحاسبة عن المشروع.
لقد مرَّت أكثر من 9 سنوات منذ الإعلان عن المشروع في عام 2005، ورغم أن الفترة الزمنية التي كانت محددة للانتهاء منه في عام 2015 قاربت على الانتهاء، فإن المشروع مازال على الورق حتى الآن، وبعد أكثر من 9 سنوات من الإنفاق المتواصل في السفر والتنقلات والرحلات المكوكية والدراسات والبدلات، لم نرَ أي إنجاز ملموس على أرض الواقع، ومازال الحديث دائراً عن معوقات تعترض المشروع، وآخر هذا الحديث ما جاء على لسان الرئيس التنفيذي لشركة صناعة الكيماويات البترولية، أسعد السعد، في مارس الماضي، مؤكدا أن مجمع البتروكيماويات في الصين، مازال يواجه معوقات سياسية.
وما يؤكد أن تنفيذ المشروع أصبح أمرا صعبا، التأكيدات الصينية أن مجمع البتروكيماويات ليس ذا أهمية بالنسبة لهم، فقد سبق تصريحات الرئيس التنفيذي لشركة صناعة الكيماويات البترولية، أسعد السعد، تأكيد من الجانب الصيني خلال شهر ديسمبر الماضي، أنه ينظر إلى المجمع بأنه ليست له أولوية في الوقت الحالي، مقارنة مع إنشاء المصفاة التي يعدها ضرورية لتزويد السوق الصينية المتعطشة للمشتقات البترولية المكررة من المصفاة، كالبنزين والديزل، لكن إنشاء مجمع البتروكيماويات بجانب المصفاة، يمثل أهمية قصوى للكويت، إذ إنه في حال إنشائه سيعوض خسارة المصفاة، حيث إن المصافي في الصين تتعرَّض للخسائر، لأن اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح – أعلى هيئة تخطيط اقتصادي في الصين- تنظم أسعار الوقود، بحيث تكون أقل من 20 إلى 30 في المائة عن مستويات السوق العالمية، الأمر الذي يجعل مصافي التكرير الصينية غالبا ما تفقد أرباحها عندما تكون أسعار النفط الخام أعلى من 100 دولار للبرميل، وهو ما يعني أن المصفاة المزمع إقامتها ستحقق خسائر حتمية لحين إنشاء مجمع البتروكيماويات، ومن ثم ستتكبَّد الكويت جزءاً من هذه الخسائر، والأمل معقود على مجمع البتروكيماويات في تعويض هذه الخسائر، إلا أن الأولوية عند الجانب الصيني تتمثل في إنشاء المصفاة، ولا أهمية كبيرة لمجمع البتروكيماويات، وهذا يفسّر تشدد الجانب الصيني، وتمسكه بتخفيض عدد الوحدات في مجمع البتروكيماويات، وتخفيض إنتاج المجمع، وهو ما سيخفض هامش الربح للجانب الكويتي، ومع تمسك الجانب الكويتي بإنشاء مجمع البتروكيماويات تضع الصين العراقيل الواحدة تلو الأخرى أمام هذا المشروع، لترضخ الكويت في النهاية للأمر الواقع، وتقبل بالمشروع على هذا النحو.
ورغم أن مشروع مجمع بتروكيماويات الصين اتسم بالتخبُّط وعدم الوضوح منذ بدايته، ومع مرور الوقت تزداد الأمور تعقيداً، ويزداد انفاق الأموال من دون نتيجة، ورغم فقدان المشروع جدواه الاقتصادية، فمازالت القيادات النفطية تردد على مسامعنا، أن كل خطوات المشروع صحيحة، وتصر على أن المشروع مازال مجديا اقتصاديا، بل ذهب بعضها إلى أبعد من ذلك، بالتأكيد أنه لا يوجد أي تأخير في الجدول الزمني المحدد للمشروع، ولا يوجد أي إهدار للمال العام في هذا المشروع، وهذا كله يؤكد سوء الإدارة والتخبط في المشروع وفي القطاع النفطي، وهذا ما أكدته أكثر من جهة اقتصادية، وأكده أيضا تقرير ديوان المحاسبة في ملاحظاته على المشروع، مؤكدا أن عشرات ملايين الدولارات أنفقت، ولا تقدم في المشروع.
مشروع إنتاج الغاز
من المشروعات التي تدل أيضا على التخبط وسوء الإدارة في القطاع النفطي، مشروع إنتاج الغاز.. فعلى الرغم من النفي المستمر لشركة نفط الكويت أي تأخير لإنتاج الغاز بشكل تجاري، فإن هذا الإنتاج تأخر أعواما، في حين تسوق الشركة تبريرات وهمية.. ووفق تقارير اقتصادية، فإن سبب التأخير يرجع إلى عجز الشركة عن توفير كوادر ملمة بالغاز.
مشروع الرؤية
مشروع الرؤية، هو المشروع الذي كان يهدف إلى توحيد الشركات تحت مظلة مؤسسة البترول، وقد طرح في مناقشات المجلس الأعلى للبترول منذ سنوات عدة، إلا أن أسبابا خفية أوقفت تنفيذه، وانتظر هذا المشروع الضخم مدة طويلة كان من الممكن أن يستفيد منه القطاع منذ فترة طويلة عند بداية طرحه.
وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي سوف نستعرضها في الحلقات القادمة، وكل هذه الأمثلة تؤكد أن قطاع النفط يعاني التخبط وسوء الإدارة وعدم الالتزام بالخطط التي تم وضعها، فلا يوجد على القيادات رقيب أو حسيب في تطبيق هذه الخطط، ولا يوجد عقاب لكل قيادي في حالة التأخير في تنفيذ أي مشروع، فلم يشهد القطاع معاقبة أي مسؤول لعدم تحقيقه الأهداف السنوية، كما أن القيادات في هذا القطاع تخاف من اتخاذ القرارات خوفا من المساءلة، ويفضل الكثير منهم تأجيل القرارات أو عدم اتخاذها، حفاظاً على المنصب، وتأتي الاجتماعات تلو الأخرى، لتؤجل هذه القرارات المصيرية للقطاع.
بدء العد التنازلي
وفقا لدراسات وكالة الطاقة العالمية، فإن الإنتاج النفطي العالمي سيبلغ ذروته ما بين أعوام 2010 و2020، ثم يبدأ بعد ذلك العد التنازلي والهبوط غير القابل للتراجع، كما تقدر معظم الدراسات أن عمر النفط المتبقي لا يتجاوز الخمسين عاماً، ويصاحب اختفاءه تعطل أو اختصار أو توقف لجميع البرامج والمشروعات الصناعية والاقتصادية والخدمات الاجتماعية في الدول النفطية.
تجربة تنموية ضعيفة
المؤكد أن تجربة الكويت في التنمية لم ترتقِ إلى المستوى المطلوب الذي بلغته دول خليحية أو أجنبية أخرى في المحيط نفسه، لذلك، فإن الكويت تحتاج إلى إعادة النظر في استراتيجياتها، التي حتى وإن وضعت، فهي لا تنفَّذ بالشكل الأمثل، ويجب وضع خطط حقيقية تخدم البلاد بشكل حقيقي، فما يتم حاليا يمثل بدرجة كبيرة استنزافاً لثروة ولمورد لن يبقى إلى الأبد، وفي ذلك ضياع لفرصة تاريخية لن تتكرر.
لهذا، فإن الاستراتيجية الاقتصادية الأمثل لضمان استغلال أفضل للثروة النفطية يجب أن تكون جزءاً من استراتيجية شاملة، تحدد رؤية الكويت لاقتصادها، بعد عقود من الآن، وتقوم على التوجه نحو الاستثمار الحقيقي، وهذا الاستثمار الحقيقي يجب أن يتجه نحو قطاعات صناعية منتقاة بعناية، كذلك لابد من إصلاح شامل في مجال المالية العامة، فهناك إنفاق حكومي ضخم، ولكن العوائد لا تتناسب مع حجم الإنفاق، فهو يفتقر إلى الفاعلية والكفاءة، في ظل غياب التوزيع على أوجه إنفاق ذات الأولوية الاستراتيجية.
سياسة إنفاق خاطئة
تعد سياسة الإنفاق التي تتبعها الكويت أحد الأسباب التي أدت إلى تراجعها وتخلفها على الصعيد الاقتصادي، حيث تذهب معظم مصروفات الميزانية العامة للدولة إلى بنود الإنفاق الجاري، كالمرتبات والدعم، مقابل إنفاق رأسمالي واستثماري ضعيف جداً، وهي السياسة التي حثت العديد من المؤسسات الاقتصادية الدولية المرموقة، كصندوق النقد الدولي، على ضرورة تغييرها، إلا أن ذلك لم يحدث للأسف.
لذا، فإن تحقيق التقدم الاقتصادي يتطلب إدارة قادرة على تغيير النهج القديم وخلق سبل جديدة تساهم في إصلاح ومعالجة المعوقات التي تقف أمام التنمية الاقتصادية.