
كتب محمد عبدالرحيم:
عرض أخيراً بنادي الكويت للسينما ضمن أنشطة «استديو الأربعاء» الفيلم الإسباني «Agora»، وهو إنتاج إسباني – أميركي مُشترك عام 2009، بطولة راشيل وايز، ماكس مينغيلا، أوسكار إيزاك، أشرف برهوم، مايكل لونسدال، وروبرت إيفانز. ومن إخراج الإسباني اليخاندرو أمينبار.
يدور الفيلم عن الصراع الأبدي ما بين العلم والعقيدة الدينية، من خلال شخصية «هيباتيا» العالمة السكندرية الشهيرة، التي لم تؤمن إلا بالعقل، ولاقت حتفها، بسبب دوجمائية المتدينين. هذه الحالة التاريخية الشهيرة ليست بعيدة عنا في دول المنطقة التي لا تزال تحارب مُخالفيها في الرأي، ولا ترى سوى القتل وسيلة مُثلى للتخلص منهم، فالطبيعة الدينية تنوء بثقل العقل متى توافرت لها عناصر القوة.. أما في مرحلة الضعف، فتحاول التخفي والتغني بالعقل ومميزاته وإنجازاته، الأمر لا يقتصر على دين بعينه، بل على الفكر الديني عموماً والعقائدي حديثاً، فالدين والأيديولوجيا، سواء من حيث الانغلاق الأصولي، وتفسير العالم من وجهة نظر واحدة لا تتحمل رأياً مُخالفاً، وتسعى جاهدة لإزاحة هذا الرأي عن طريقها بأسهل الطرق، ألا وهو القتل.

الجو العام للأحداث
تظهر عدة عبارات عند بداية الفيلم، لتوضح الجو العام للأحداث التي سنراها على الشاشة، الجو الخانق والمُحتقن حول ديانة أصبحت تجد ذاتها في ظِل انحلال سياسي.. «في عام 391 بعد ميلاد السيد المسيح، كانت الإمبراطورية الرومانية، في طريقها للانحلال والسقوط، نتيجة انتشار الفساد والتقاتل على السلطة والنفوذ، في هذا الوقت كانت مدينة الإسكندرية، منارة العالم، حيث كانت توجد فيها الفنارة، وهي واحدة من عجائب الدنيا السبع القديمة، كما كانت فيها أعظم مكتبة عرفها التاريخ، وهي مكتبة الإسكندرية التي حوت بين رفوفها آلاف الوثائق والمؤلفات التي تضم أعظم إنجازات العقل البشري في كل المجالات، وكانت هناك ثلاث قوى تتصارع في ما بينها، اليهود الذين يسيطرون على المجالات الاقتصادية ويتمتعون بالنفوذ والسيطرة، ونسبة غير قليلة ممن يؤمنون بتعدد الآلهة ويعبدون الأوثان.. أما الفقراء والمطحونون، فقد وجدوا في الديانة المسيحية ملاذاً لهم من الظلم والاستبداد، وفي هذه الأجواء القابلة للاشتعال كانت تعيش «هيباتيا» أول امرأة «فيلسوفة» وهبت حياتها لدراسة وتدريس علم الفلك والرياضيات».
العداء الأبدي
«أجورا» كلمة يونانية تعني «الساحة»، التي كان يجتمع فيها المثقفون والشعراء والعلماء في أثينا والإسكندرية. هذه الساحة التاريخية تمثل هنا الحالة التي كان يعيشها المجتمع المُنفتح، قبل أن يصبح مرهوناً بديانة صاعدة تريد أن تلعب دورها في الحياة.
يستعرض الفيلم شخصية «هيباتيا» العالمة الإغريقية التي لم تؤمن سوى بالعلم، ولها من التأثير على المجتمع السكندري وقتها – القرن الرابع الميلادي – ما جعلها هدفاً للكنيسة الصاعدة ورجالها المهوسيين بالسلطة، وشبابها الفقراء، الذين لن يجدوا الطريق إلى ملكوت الله إلا من خلال قتل كل مُعارضيهم – الحالة تنطبق بالضبط وحال الأصوليين الإسلاميين، وفكرة التخلص من خصومهم – المُشكلة الأخرى أن عالمة الرياضيات والطبيعة، الباحثة في حركة الكواكب والأفلاك، رفضت الانطواء تحت لواء تعاليم الكنيسة (كنيسة الإسكندرية)، ما أثار غضب رجالها، وعلى رأسمهم آمونيوس، أحد قادة فرقة «جنود الله»، التي أصبحت تنشر تعاليم المسيحية بالقوة بين الشعب، والتخلص من معارضيها، وخاصة بعد ضعف الدولة الرومانية وبداية طريقها نحو الانحلال، لينتهي الأمر بقتلها، وتدفع حياتها ثمناً لإيمانها بالعلم وحده.
الحكاية الدرامية
تقوم «هيباتيا» بعملها كمُعلمة للفلسفة والرياضيات، في جو مشحون بالتوتر، وقد بدأ القائمون على نشر المسيحية باتخاذ خطوات أكثر حدة، لفرض الديانة على الشعب، في ظِل تراجع سلطة الدولة الرومانية، من بين التلاميذ الشباب الذين يستمعون لمحاضرات هيباتيا، كل من العَبد (دافوس)، والذي يحبها في الخفاء، إضافة إلى «أوريستوس» الشاب الطموح المُنتمي لفئة النبلاء. تجاهد هيباتيا، في ظِل المد الأصولي العنيف لرجال الدين المسيحي، لتصبح وحدها، وخاصة بعدما أصبح دافوس من أتباع هذا الدين، وأحد ناشريه بالقوة، في مقابل أوريستوس الذي أصبح عسكرياً، حتى وصل لكونه الحاكم الفعلي للمدينة، وممثل الإمبراطور الروماني في الإسكندرية، تتصاعد حدة الاحتجاجات على هيباتيا ودورها، كامرأة وكوثنية لا تؤمن بالعقيدة المسيحية، يحاول أوريستوس الدفاع عنها في البداية، إلا أنه في النهاية يتخلى عنها، بفضل موقعه السياسي، وخاصة بعد إصرارها على عدم التحايل والانصياع للتيار العام من الهوس الديني، فهي لا تؤمن سوى بالحرية التي يفرضها العلم وتحكيم العقل، ويُحكم عليها بالفعل بالقتل، إلا أن دافوس ينقذها من عقوبة الحرق وهي لم تزل حيّة، ويقوم بقتلها رحمة بها من مصيرها، فتستسلم له، وكأنها باركت فعله هذا، ونشاهد أيضا تدنيس مكتبة الإسكندرية كمنارة للعلم، وحرق كل محتوياتها، من كتب ومؤلفات تعد جامعة لما أنتجته الإنسانية من علم وفكر وقتها، بالطبع تلك هي الحكاية الدرامية.. أما الحقيقة فـ «هيباتيا» تم تقطيعها أشلائها من قِبل مهاويس الدين، وحرق هذه الأشلاء أمام العامة.
الشخصيات ودلالتها
من نقاط القوة في الفيلم، بخلاف التصوير والملابس، والديكورات التي تماثل إسكندرية تلك الفترة الموغلة في القِدم، السيناريو الذي رسم الشخصيتين المحوريتين في الفيلم (العَبد والسياسي)، فكل منهما بداية دارا في فلك الفكر والعلم والحب للمرأة التي علمتهما أولى خطواتهما في الحياة، إلا أن ضعف روحهما هو الذي أدَّى بهما للخوف والتراجع وعدم استكمال الرحلة معها، وتحمل مسؤولية الاختيار، فتركها صاحب السلطة وقتلها العبد المهووس دينياً، الذي وجد في التدين سلطة فقدها طوال حياته كعَبد، والأمر كله إيحاء للمقارنة بين امرأة قوية ومجتمع ذكوري تأسس بفضل الدين، الذي جاء ذكورياً في كتب مقدسة، اعتمدت الذكورة نهجاً، ووارت المرأة خلف القداسة، بداية من قصة آدم وحواء وفعل الخطيئة الأولى، وصولاً إلى وصفها بأنها ــ المرأة ــ ناقصة عقل ودين، بخلاف حياة التنوع والاختلاف والرأي والرأي الضد في عصور تعدد الآلهة، وما يُطلق عليها بعصور الوثنية.
الذاكرة
هل نفترض بعد مشاهدة الفيلم واسترجاع الحال التي كان عليها العالم والإنسان أن الصراع الحقيقي ما بين الحرية والأصولية هو صراع الذاكرة ضد النسيان، فالحضارة هي الوجود الإنساني في أسمى تجلياته، حضارة الفكر والعلم، وما انهيار القيم الإنسانية وبدايات الصراعات التي لم تنته حتى الآن سوى صراع العقائد، وتوهم امتلاك النظرة المُطلقة للحقيقة، وما عدا ذلك فهو باطل، الذاكرة إنسانية وحُرة، فيما النظم العقائدية والأيديولوجية في عصرنا هذا ما هي إلا تعميم حالة النسيان، التي يريدها أصحاب العقائد، حتى يتم القضاء على الروح الحرة للإنسان.
الرقابة المصرية وتمجيد الوثنية
ضمن حالة المهزلة التي نعيشها، وأثناء عرض الفيلم بالسينمات في العالم، اعترضت الرقابة المصرية على عرض الفيلم بدور السينما المصرية، واقتصر الأمر على نوادي السينما الخاصة، من دون العروض الجماهيرية، وقد ساقت الرقابة سبباً في غاية السخف، وهو أن الفيلم يعمل على تمجيد الوثنية، إضافة إلى أنه سيتسبب في إيذاء مشاعر الإخوة المسيحيين.
وبالطبع، بما أننا نحيا في عالم بعيد عن العقل والمنطق، ستطالعنا أسباب بعيدة تتنافى وأي منطقية، والرقابة هنا تمثل الموقف الرسمي وقتها، ورغم ذلك، فالفيلم تمَّت مشاهدته على نطاق واسع بين المصريين، من دون تفرقة بين مسلم ومسيحي، وشعر كل منهما أننا نعاني حالة عامة من الأصولية، كانت مسيحية وأصبحت إسلامية، لكن المُعاناة واحدة.
السينما العربية
عالجت السينما الأميركية الأكثر تحفظاً، مقارنة بسينما أوروبا، مشكلة الأصولية والعقائد في أفلامها، كالإغواء الأخير للمسيح لمارتن سكورسيزي، ويسوع المسيح النجم الأعظم إخراج نورمان جيسون.. أما في أوروبا، فكان فيلم مسيح مونتريال لدينيس أركان. كلها أفلام ناقشت موضوعات جدلية تختص بحياة المسيح وطبيعة رسالته، ومدى تأثيرها المجتمعي. فهل لنا في سينمانا العربية أن نحاول التطرق إلى طبيعة أصولياتنا العقائدية، طبيعتها وتداعياتها؟