
كتب محرر الشؤون الاقتصادية:
أشعلت حالة عدم الرضا الاجتماعي التي يعيشها كثير من أبناء الكويت، بسبب التفاوت الكبير في الأجور، الكثير من الاحتجاجات والإضرابات مجدداً على مدى الأسابيع الماضية. وشهدت بعض الهيئات والمؤسسات شللا تاما، بسبب هذه الإضرابات، وعلى رأسها مؤسسة التأمينات الاجتماعية، التي وصل الإضراب فيها إلى ما يزيد على الشهر حتى الآن، فما زال موظفوها يواصلون إضرابهم، لتحقيق مطالبهم، وفي مقدمتها مطالبة وزير المالية والإدارة العامة للمؤسسة بالتوقف عن التعسف في إقرار كوادرهم الوظيفية، أسوة بالجهات المشابهة لهم في طبيعة العمل، كما اعتصم عدد من العاملين في محطات القوى الكهربائية، للمطالبة بإقرار بعض البدلات التي يرونها مستحقة، مهددين بالإضراب، في حال عدم تنفيذ مطالبهم، وعلى المنوال ذاته تجهز بعض النقابات لإضرابات قادمة، بسبب بعض المطالب الفئوية أيضا.
وعلى الرغم من تأكيد عدد ليس بالقليل من المعنيين بالشأن الاقتصادي في أكثر من مناسبة، وأكثر من وسيلة إعلامية، أن الزيادات المستمرة في الأجور والرواتب خلقت أعباء كبيرة على ميزانية الدولة خلال الأعوام الأخيرة، فإن ذلك لا يمنعنا من القول إنه كان الأجدر بالحكومة تحقيق العدل والمساواة في بند الرواتب والأجور لخلق حالة من الرضا الاجتماعي بين أبناء الكويت، ولوأد هذه الاعتصامات في مهدها، فالحكومة هي المسؤول الأول عما تشهده الكويت من إضرابات، بسبب مماطلتها وعدم تنفيذ المطالب والوعود والتوصيات، وعدم تنفيذها الإصلاحات الهيكلية المطلوبة في الأجور، فما زلنا نسمع عن البديل الاستراتيجي الذي سيحل هذه المشكلات، ولا نرى أي شيء على أرض الواقع، والمؤكد أن تفاوت الأجور والرواتب بهذه الصورة يدعو للاحتجاجات المتكررة والإضرابات التى قد لا تحمد عقباها فى المستقبل، ونحن لا ندعو إلى ما يخالف القانون، بل ندعو إلى مساواة تكون قائمة على أسس عادلة، وتوفر حياة اجتماعية كريمة للمواطنين.
حلقة جديدة
وقد شهدت البلاد موجات جديدة من الإضرابات خلال الفترة الماضية، ما بين إضرابات لنيل مطالب مالية، وما بين إضرابات اعتراضا على بعض السياسات التي تتبعها بعض الإدارات أو الأجهزة الحكومية، ومع انطلاق قطار الإضرابات مجددا، الذي بدأ ينتقل بين أكثر من جهة ومؤسسة، وبعيداً عن مشروعية هذه الإضرابات، أو عدم مشروعيتها، وبعيدا عما إذا كان هؤلاء الموظفون على حق أم لا، فإن الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أن هذه الإضرابات تكلف الدولة ملايين الدنانير يومياً، وفي الوقت ذاته الاستجابة لهذه المطالب الفئوية، سيرفع فاتورة الرواتب والأجور في الميزانية إلى ما لا تستطيع أن تتحمله الدولة في السنوات القليلة المقبلة، وهذا ما حذر منه أكثر من تقرير محلي وعالمي، وعلى رأسها تقارير البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، التي توقعت أن تحقق الكويت العجز المالي بحلول عام 2018، وهذه هي الكارثة التي نحذر منها منذ سنوات.
رضوخ.. وفوضى
لقد أصبحت قضية التفاوت في الأجور والرواتب من القضايا الشائكة، وازدادت تعقيداً مع تجدد الاعتصامات والإضرابات مرة أخرى، وتعطيل مصالح المواطنين، فقد مرَّ أكثر من شهر على اعتصام الهيئة العامة للتأمينات، ولم يتم حل هذا الأمر.
وبعيداً عن الأسباب المتعددة التي ساقها وزير المالية أنس الصالح لتبرير عدم حل هذه المشكلة، وعلى رأسها “أن هناك أكثر من جهة تأخذ الكوادر نفسها، ولا يمكن التعامل مع مؤسسة التأمينات بمعزل عن الجهات الأخرى”، وكأن الوزير يطالب الجهات الأخرى بالإضراب والاعتصام، حتى تتساوى مع هيئة التأمينات، فإن العناء الذي يتكبَّده المراجعون يومياً من أجل إنجاز معاملاتهم التي توقفت تماماً، تتحمل مسؤوليته الحكومة، التي خلقت تفاوتا كبيرا في سلم الرواتب جعل الكثير من الجهات تفكر في الإضراب عن العمل، من أجل تحقيق مكاسب وظيفية، أسوة بالجهات الأخرى، فالبداية كانت مع رضوخ الحكومة أمام تهديدات العاملين في القطاع النفطي، وإقرارها الكادر الخاص بهم، والذي كلف الدولة 142 مليون دينار (ما يزيد على 500 مليون دولار)، وهذا الأمر أثار حفيظة العديد من الفئات الأخرى في وزارات الدولة المختلفة، وبدأت كافة الجهات تطالب بكوادر، أسوة بالعاملين في القطاع النفطي، وتهدد بالإضراب عن العمل، إذا لم تستجب الحكومة للأمر، مثلما فعلت مع القطاع النفطي، وشهدنا خلال هذه الفترة مئات الإضرابات والاعتصامات التي جعلت البلاد تعيش حالة من الفوضى.
خسائر فادحة
وها هي المشكلة تتجدد ثانية، ولو أن الحكومة عالجت الأمر منذ البداية بشكل موضوعي، من خلال دراسات موضوعية لسلم الرواتب في البلاد، تأخذ فيه بعين الاعتبار تقليل الفوارق في الرواتب بين الموظفين في قطاعات الدولة المختلفة، وتخفيض الطبقية الحادثة في الوقت الحالي، ووضع الحلول العلمية لهذه المشكلة، لما وصلنا إلى هذه الحالة التي نحن عليها الآن. ويبدو أننا سنشهد خلال الفترة المقبلة موجات جديدة من الاعتصامات في الكثير من الجهات، وخصوصا مع رفض الكثير من الجهات للبديل الاستراتيجي الذي تتحدث عنه الحكومة، ورفض القطاع النفطي تقليص مكافآت المشاركة في النجاح، ورفض التعديل على مكافآت نهاية الخدمة، وقد يصبح من الطبيعي جدا أن تذهب إلى أي وزارة، أو هيئة، فتجد الأبواب مغلقة، والغريب أن الحكومة لا تدرك خطورة هذا الأمر وانعكاساته على الاقتصاد وعلى التنمية، فيومياً ستتكبَّد الدولة مئات الملايين من الدنانير، من جراء هذا التعطيل.
تداعيات اجتماعية
والمؤكد أن الزيادة والحوافز التي أقرت لجهات معينة أحدثت شرخا لا يستقيم إلا بتصحيح شامل ومستحق لجميع العاملين الكويتيين، فحالة التخبط وعدم الاستقامة التي تنتهجها الحكومة وديوان الخدمة المدنية في انتقائية إقرار الكوادر، تؤكد أن الحكومة هي التي تسوق وتدفع إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار وتأليب موظفي الدولة على بعضهم البعض بكل تخصصاتهم ومسمياتهم، كما أنها تخلق حالة من التذمر وعدم الرضا تجاه سياسة الحكومة في هذا الصدد.
والمتابع لحركة الاعتصامات والإضرابات التي حدثت خلال الأعوام الماضية، يجد أن الجهات التي اتبعت سياسة «لي الذراع» مع الحكومة كانت الاستجابة فورية لمطالبها، وهذا ما كرَّس حالة الاعتصامات التي تشهدها البلاد بين الحين والآخر، وخلق حالة الفوضى التي شهدتها وسوف تشهدها البلاد من إضرابات واعتصامات شلت الحركة في غالبية وزارات الدولة، ويُساءل عن هذا بالدرجة الأولى الحكومة، التي تتخبَّط في القرارات، وميزت فئات وجهات على الأخرى من دون وجه حق، سواء كانت هذه الجهات تابعة لديوان الخدمة المدنية، أو جهات مستقلة في التعيين لا تتبع ديوان الخدمة المدنية، فالجميع كويتيون، ويجب أن يحصلوا على الحقوق نفسها، طالما يتمتعون بالمؤهلات والدرجات العلمية نفسها وعدد سنوات الخبرة. فتلبية الحكومة لمطالب جهات، وإغفال أخرى خطأ فادح، فهناك الكثير من الكوادر تمَّت الاستجابة لها، وجهات أخرى لم تتم الاستجابة لها، بحجة أنه يجري دراستها، وظل التسويف الحكومي قائما، حتى باتت الفجوة بين الموظف ونظيره في جهة أخرى لا يمكن تقبلها، ما أدَّى إلى انفجار الوضع، كما هي الحال في الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، والغريب أن الحكومة دائما ما تبرر هذه الفجوة بأن هناك جهات مستقلة، ولا تتبع ديوان الخدمة المدنية، وهي بهذا المنطق تدعو إلى توسيع تلك الهوة، وتزرع نوعا من الحقد بين أبناء الوطن الواحد.
تداعيات اقتصادية
أما على المستوى الاقتصادي، فستظل قضية زيادة الرواتب والكوادر قضية محورية، وسيظل الاقتصاد الوطني يعانيها على مدار السنوات المقبلة، فمنذ سنوات طويلة لا يمر عام من دون أن يتجدد الحديث عن هذه القضية، وتشهد البلاد اعتصامات واحتجاجات، للمطالبة بميزات فئوية لجهات وهيئات تحت مسميات مختلفة، كل هذا من دون النظر إلى مدى تأثير ذلك على اقتصاد البلاد، ومستقبل الأجيال القادمة، ومستقبل الاقتصاد الكويتي، وكأن مستقبل الكويت أصبح في آخر اهتمامات الحكومة وهذه الفئات، ولا يعنيها ما ستؤول إليه الأوضاع الاقتصادية في البلاد مستقبلا، وخصوصا مع التحذيرات الأخيرة التي أطلقها صندوق النقد الدولي، والتي تؤكد أن الكويت ستعاني العجز المالي بحلول عام 2018، أو عام 2020 على أبعد تقدير.
أعباء إضافية
ومع ضخامة حجم المبلغ الذي تحملته ميزانية الدولة سنويا، والذي يتراوح بين 1.2 و1.3 مليار دينار، للإيفاء بالزيادات والكوادر التي تم إقرارها خلال العامين الماضيين، يتضح لنا أن ميزانية الدولة لن تستطيع تحمل أي زيادات مستقبلا، في ظل التوقعات بتراجع الفائض في ميزانية الدولة خلال الأعوام المقبلة، وهذا ما ينذر بالعجز الذي أشار إليه كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
ولقد كان موقف البنك الدولي واضحا، حيث حذر خلال اجتماع سابق مع ممثلي الخدمة المدنية من زيادة الرواتب، وأصدر توصية بضرورة تخفيضها، أو إبقائها على الوضع الحالي، من دون زيادة، لعدم إثقال كاهل الباب الأول في الميزانية الخاص بالأجور والرواتب، مؤكداً أن أي زيادة على الرواتب ستزيد العجز الكبير الذي يعانيه هذا الباب، وستعرّض الميزانية إلى أزمة مالية لا تحمد عقباها، إذا ما هبطت أسعار النفط.
وانتقد البنك الدولي سياسة الحكومة التي تستمر في الالتزام بتوظيف العمالة الوطنية في القطاع الحكومي، ما يزيد الأعباء على الباب الأول للميزانية، وطالب بضرورة أن تبادر الحكومة إلى توجيه الكوادر الوطنية إلى العمل في القطاع الخاص، مؤكداً أن الموظفين الكويتيين ليسوا بحاجة إلى زيادة رواتبهم، نظرا لأنها الأعلى عالميا، مقارنة بمستويات الدخل، فاستمرار العمل بالسياسة الحالية لتشغيل الكويتيين في الحكومة لن يغير من الحال شيئاً، إنما سيزيد المعضلة الحاصلة في الميزانية، مبيناً أن نصف الميزانية العامة للدولة يذهب إلى الرواتب والأجور، وأن هذا الأمر لم يحدث في أي دولة بالعالم.
الناتج المحلي
وفي ظل هذه المطالبات المستمرة بالزيادات والتهديد بالإضرابات عن العمل، لا ينظر الكثير إلى المزايا التي يحصل عليها المواطن الكويتي.. فوفق آخر الإحصائيات، قفز متوسط نصيب الفرد الكويتي من الناتج المحلي الإجمالي إلى ثلاثة أضعاف المعدل العالمي، وأربعة أضعاف المتوسط بالدول العربية خلال الفترة من 2005 وحتى 2012، وخلال هذه الفترة تجاوز معدل الاستهلاك المنزلي سقف الـ 27 دولارا (ما يقارب 8 دنانير كويتية) يومياً، متجاوزا بكثير السقف الذي حدده البنك الدولي الذي يتراوح فيه معدل قوة الشراء بين 1.2 و2 دولار يومياً.
تحقيق المساواة بين موظفي الدولة
زادت عملية المطالبة بالكوادر الوظيفية بعد إصدار الكادر الخاص للعاملين في القطاع النفطي بواقع 142 مليون دينار، فهذا القرار أثار حفيظة العديد من الفئات الأخرى، وخاصة العاملين في مهن فنية معادلة لذات المهن في مؤسسة البترول الكويتية، مثل المهندسين والفنيين وغيرهما في وزارات الدولة، حيث طالبوا جميعا بكوادر خاصة بهم، وتحقيق المساواة بين موظفي الدولة.
مجال خصب للتكسب الشعبي
تجد الكثير من المطالبات الفئوية العديد من المدافعين والمساندين، وخصوصا من بعض أعضاء مجلس الأمة الذين يدافعون عن هذه المطالبات باستماتة، منطلقين في هذا المسلك من غايات انتخابية، بهدف كسب أصوات انتخابية، تحسبا لأي انتخابات قادمة، فمثل هذه القضايا كثيرا ما أوصلت أشخاصا إلى قاعة مجلس الأمة، في حين يغيب عن هؤلاء الأعضاء الضرر الكبير الذي يقع على الاقتصاد بشكل عام.