
كتب محمد عبدالرحيم:
قدَّم مارتن سكورسيزي عدة أفلام، تناولت مجتمع نيويورك، بداية من سنوات التكوين الأولى، والصراع بين السكان الأصليين، والمبشرين، كما في «عصابات نيويورك 2002»، وقبلها قدَّم نيويورك في النصف الثاني من القرن الـ 19، كاشفاً التقاليد البالية المُستعارة من المجتمع الإنكليزي، والوله بتقليد كل ما هو أوروبي، وهي مرحلة عدم الثقة بالنفس، التي عانتها أميركا لفترة طويلة، قبل أن تصبح دولة عظمى. في فيلمه «عصر البراءة 1993» The Age of Innocence… المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لأديث وارتون يكشف سكورسيزي عن طبيعة هذا المجتمع، وقيود التقاليد الصارمة، التي وضع نفسه تحت رحمتها، حتى يلقى الاحترام والتبجيل، مجتمع مزيف العلاقات، رتيب المشاعر، يبدو الفرد به كآلة محدد دورها سلفاً، وعليها القيام بهذا الدور على الوجه المرسوم بدقة، وإلا كان مصيرها الطرد أو النفي خارج دائرة الأوهام البالية هذه.
الفيلم بطولة دانيال دي لوي، ميشيل بفايفر ووينونا رايدر، وحصل على عدة جوائز، أهمها أوسكار لأفضل تصميم أزياء، كما رُشح لأوسكار أفضل ممثلة دور ثانٍ، أفضل سيناريو مأخوذ عن عمل أدبي، وأفضل موسيقى.
الحكاية
في عالم الأُسر الأرستقراطية المرسوم بدقة من قِبل قوى التقاليد المزعومة، البراق من الخارج، والواهن والمزيف من الداخل، من حيث العلاقات بين شخصياته، يرتبط المحامي الشاب (نيولاند أرتشر/دانيال دي لوي) بالفتاة الجميلة (ماي ويلاند/وينونا رايدر)، ويستعد كل منهما لمراسم الخطبة، فيما تأتي فجأة قريبة الفتاة (إلين أولينسكا/ميشيل بفايفر) من أوروبا، وقد تركت زوجها، ما يجعلها فريسة لأقاويل الأرستقراطية الأميركية، وخاصة أن الجميع ينظر لها على اختيارها هجر زوجها، بل وطلبها الطلاق أنها بمثابة الشيطان الذي حضر ليُفكِك الصورة المثالية الموهومة لنساء ذلك العصر، فيبتعد عنها الجميع، وخاصة النساء، ويرغبها الجميع أيضاً من مجموع الرجال، يريدون هذه المرأة المتمردة على التقاليد في ظلام مخيلتهم، قبل ظلام حجرات النوم.
تبدأ علاقة الحب بين نيولاند وإلينا، ما يهدد مشروع زواجه المُقدّر سلفاً بينه وبين خطيبته، ليبدو الأمر فضيحة تهدد الجميع، لتحل إلين المشكلة في النهاية، وتعود أدراجها إلى أوروبا.. لقد اختارت المرأة ودفعت حبها ثمناً، أما الرجل، فانحاز وخاف من تبعات اختياره، وأتمَّ زواجه من فتاة التقاليد الأرستقراطية، ليعيش كالأموات، حتى يوهِن العظم منه، ويشتعل رأسه بالمشيب، كمومياء تقرأ تاريخها في عذاب لن ينقضي.
مسألة الاختيار
لم تكن قصة الحب في الفيلم، وفي الرواية من الأساس إلا ثيمة ضمن فكرة أكبر، وهي تبعات لحظة الاختيار الحُر، في مجتمع يقع تحت عبء التقاليد، وخاصة أن العواقب الوخيمة تلوح كل لحظة في وجه مَن يفكر في كسر هذه القواعد الصارمة، فالحكايات حول موائد الطعام، وشرفات القصور تدور دوماً عن الرجل الذي فرَّ من جنة التقاليد ــ وفق وجهة نظر المتندرين ــ وخسر كل شيء، وعن المرأة التي صار شبح سوء سمعتها يُطاردها، فالنبذ هو العقوبة المعروفة سلفاً، أما لو تمَّت مثل هذه العلاقات في إطار من السريّة، وداخل جدران البيوت التي تجملها الصور الرائعة، فلا ضرر. إذاً، ينتصر الفيلم للمرأة وقدرتها في مواجهة الجميع، ودفع ثمن حريتها، أما الرجل، فهو مُكبّل أكثر منها بتراث لا ينتمي إليه في الأساس، وهنا تكمن المفارقة الهزلية لتسمية العمل بـ «عصر البراءة».
هل هو بريء حقاً؟
يستند سكورسيزي إلى الرواية في الكثير من التفاصيل، وعمل إطار شِبه توثيقي لتلك الفترة.. الأزياء والإكسسوارات، وأنواع الطعام، وإيقاع العصر المُتسِم بالبراءة، وحتى يكشف للمجتمع الأميركي طبيعة تكوينه، في ظل البريق الزائف، يحاول تكسير وتحطيم الصورة التقليدية لطبيعة تلك المرحلة، فبين هذا الجمال في التفاصيل وهذه الدِقة في تصوير الجو العام، تأتي الشخصيات الحائرة والمكبوتة، لتكشف زيف تابو البراءة المفقود، وأن السبيل لاكتشاف الشخصية الفردية الأميركية، والحرية التي يتمتع بها أفراده الآن، لم تكن وريثة تاريخ يُنادي بها، بل جاءت على سبيل ردة الفعل، لا أكثر، ومعاناة شديدة، حتى تخلص المجتمع الأميركي من سخافات التقليد لمجتمع قام باحتلال أرضه من قبل/عقدة كل ما هو إنكليزي، وأوروبي عموماً، فيكشف الفيلم عن عصر لا ينتمي لأي براءة، ولكنه يسحق أي شعور بريء في التغيير، فالصراع قائم بين التقاليد وضريبة كسرها والتمرد عليها، حتى لو في الخيال، الذي لم يتعدَ مجال الفعل، ويتمثل هنا في الشائعات التي ظلت تراود نيولاند طوال حياته، لمجرد تفكيره الارتباط بامرأة قررت الوقوف بمفردها ضد طبيعة مجتمع أسير تقاليد انتهت، والتي تعلق على ما حولها بعبارات دالة عند عودتها من باريس، قائلة «أذكر الجميع كما كانوا, بنفس الملابس.. إن أكثر ما يعجبني في نيويورك هو طاعتهم العمياء لتقاليد الآخرين».
التكنيك والإيقاع
اعتمد سكورسيزي اللقطة العامة والمتوسطة، لإظهار الفضاء المكاني وتفاصيل ذلك العصر.. هذا من ناحية، إضافة إلى الإيحاء بإيقاع الشخصيات، التي تتحرَّك خلال هذا الحيّز المكاني، الخطوات البطيئة، والمشية المعتدلة في قامة منتصبة، حتى إن دانيال دي لوي كان يرتدي الزي الخاص بشخصية نيولاند آرتشر أثناء الإعداد للفيلم، والتجول به طوال فترة التصوير. حتى في المشهد الأخير من الفيلم، وهو انتظار نيولاند أسفل شرفة إلين، نجد لقطة عامة تجمعه بابنه، الذي يتركه جالساً يتأمل الشرفة، من دون أن يصعد، فقط ظِل امرأة ترقبه وهما في سِن الشيخوخة، حتى يظل يحتفظ بصورتها، كما كانت حين هجرته.
أمر آخر يؤكد الإيحاء بهذا الإيقاع، من خلال تكوين الكادر عن طريق اللعب بالنور والظِل، لتبدو الكادرات أشبه بلوحات تلك الفترة، حيث الاهتمام المسرف بتفاصيل الأزياء وإكسسوارات المكان والشخصيات.
لعبة النور والظِل هذه تأخذ معناها الدرامي عن طريق الشخوص، فالين على سبيل المثال، كانت دائماً تدخل من أبواب مُشرعة، ويبدو أنها تدخل من عالم مضيء/روحها، حتى تستقر في الإضاءة الأقل نسبياً، حينما تصبح بين شخصيات المجتمع النيويوركي، كذلك اللقاءات بينها وبين نيولاند في البداية، سواء في الحدائق أو شرفات القصور، بخلاف تفاقم الأزمة بينهما، وقرارها الابتعاد عنه، حتى لا تعكر صفو استقرار حياته الرتيب.
يتم ذلك في كوخ أو ما أشبه بحديقة نائية، ليصبح اللقاء بينهما وكأنه إحدى اللوحات الشهيرة لرسامي تلك الفترة.
حاول سكورسيزي من خلال هذه التفاصيل.. حركة الممثلين وطريقة الأداء المُتكلفة لغالبيتهم، في مواجهة ألين العفوية، ونيولاند المتأرجح بين انبهاره بها، وخشيته مفارقة عالمه المضمون، إضافة إلى الولع والتوثيق لمفردات ذلك العصر، الذي تمثل في نوعية الموسيقى وعروض الأوبرا، والرقصات الاحتفالية في المناسبات، استحضار جميع المتناقضات في تلك الفترة..
عصر كامل يشيعه سكورسيزي برحمة، رغم قسوته على شخوصه.