
كتب محرر الشؤون الاقتصادية: تواصل «الطليعة» نشر المخالفات التي شابت عمل الهيئة العامة للاستثمار، والتخبط الذي سيطر على أدائها خلال الأعوام الماضية، ما كبَّدها خسائر بمئات الملايين من الدولارات، سواء في استثماراتها الداخلية، أو الخارجية، وهذه الخسائر أكدها ديوان عام المحاسبة في أكثر من تقرير.
وقد تناولنا في الأسابيع الماضية مخالفات «هيئة الاستثمار» في الاستثمارات الخارجية – وفق تقارير ديوان المحاسبة – والتي تضمَّنت بيع عقارات بخسارة ملايين الدنانير، وبأقل من قيمتها الدفترية، والتداخل في أرقام العوائد والأرباح، وتراجع قيمة استثمارات «الهيئة» في أكثر من بنك وشركة عالمية، ما شكَّل كارثة اقتصادية، نظرا لضخامة هذه الخسائر، وتكثيف الاستثمارات في دول بعينها كانت الأكثر معاناة من الأزمة المالية العالمية، ما كبَّد الكويت خسائر فادحة، والكثير من المخالفات الأخرى في الاستثمارات الخارجية، وكان اللافت في هذه المخالفات رصد ديوان المحاسبة ملاحظات على الهيئة تشير إلى فقدان مليار دينار (نحو 2.8 مليار دولار) لا يعرف أحد أين ذهبت؟ وهو مبلغ ضخم جدا، في حين تنوَّعت المخالفات في الاستثمارات الداخلية، فشملت تملك «الهيئة» في السنوات الأخيرة حصصا في كثير من الشركات التي تدور حولها تساؤلات، وكذلك ضخ أموال في شركات متعثرة، وتجاوزات كثيرة في آلية عمل المحفظة العقارية، ومحفظة الأسهم.
خطوة غريبة
أما موضوع هذا الأسبوع، فهو الخطوة الغربية التي أعلنت عنها الهيئة العامة للاستثمار، باعتزامها بيع كل مساهماتها المحلية، وهذه خطوة لا تتوافق مع الغرض الأساسي الذي أنشئت من أجله، والمتمثل في دعم ومساندة الاقتصاد الوطني للبلاد.
فقد أعلنت الهيئة العامة للاستثمار في شهر مايو الماضي، أن «كل الشركات التي تساهم بها داخل الكويت قابلة للبيع» إلى القطاع الخاص، مؤكدة أن توجهها لبيع مساهماتها في الشركات إلى القطاع الخاص، جاء مرتكزاً على برنامج متكامل بدأت في تنفيذه في بداية التسعينات، ومتوافقاً مع التوصيات التي خلصت إليها الدراسة التي قام بها البنك الدولي آنذاك، مؤكدة أيضا أن نجاح الهيئة في بيع الكثير من تلك المساهمات إلى القطاع الخاص يرجع بصورة أساسية إلى الأساليب والسياسات المعتمدة من مجلس إدارة الهيئة بهذا الشأن، والتي روعي فيها اعتبارات العدالة والشفافية وتكافؤ الفرص بين كافة شرائح المستثمرين ، فضلاً عن توافر السبل الكفيلة بالحفاظ على المال العام، مبينة أنها قامت بدراسة شاملة حول الشركات الاستثمارية التي تتمتع بقاعدة عملاء كبيرة، والتي تتوافر لديها المقدرة والكفاءة والخبرة التي تمكنها من القيام بمهمة تسويق مساهمات الهيئة وبيعها، وفق القواعد المعتمدة، وبناءً على ذلك، أصبحت الشركة الكويتية للاستثمار على رأس الشركات المرشحة لتولي تلك المهمة مع عدة شركات أخرى.
جدير ذكره في هذا المقام، أن الهيئة العامة للاستثمار تساهم بنسبة تفوق 5 في المائة في العديد من الشركات المدرجة في سوق الكويت للأوراق المالية، منها بيت التمويل الكويتي، بنك الخليج، بنك وربة، الشركة الكويتية للاستثمار، بالإضافة إلى أكثر من شركة أخرى، كما تساهم في العديد أيضا من الشركات غير المدرجة في السوق؛ منها شركة المرافق العمومية، المجموعة الاستثمارية العقارية، الشركة الكويتية لتعليم قيادة السيارات، شركة المنتجات الزراعية، والشركة المتحدة للإنتاج الزراعي وشركة معرض الكويت الدولي، التي أعلنت هيئة الاستثمار أخيرا أنها تقوم حالياً بإجراءات التقييم لبيع حصتها البالغة 49 في المائة في شركة معرض الكويت الدولي.
دراسات مضى عليها عقدان
لا يعرف أحد سبب هذا التحرك من قِبل الهيئة العامة للاستثمار في هذا التوقيت تحديدا لبيع جميع مساهماتها في الشركة المحلية، على الرغم من أن الدراسة التي تقول إنها ارتكزت عليها كانت في مطلع التسعينات، وكذلك الدراسة التي قام بها البنك الدولي في هذا الشأن كانت في الوقت ذاته أيضا، ومنذ التسعينات لم نجد تحركا لهيئة الاستثمار لبيع استثماراتها المحلية، وفجأة قررت اتخاذ هذه الخطوة. ولم يقتصر تفكير الهيئة العامة للاستثمار في بيع المساهمات الداخلية على الشركات الخاسرة، بهدف التخلص من أعبائها، بل شمل هذا التوجه الشركات الرابحة والشركات التي بدأت تحقق أرباحا، وكأنها ساهمت في هذه الشركات لتتحمل خسائرها، وعندما بدأت تحقق الأرباح وأصبح في الإمكان تعويض ما خسرته الهيئة من أموال، قررت أن تبيع هذه الشركات وتحرم المال العام من تعويض ما فقده خلال السنوات الماضية، وأعلنت نيتها التخلص من هذه الشركات.
حجج واهية
وتذرع الهيئة العامة للاستثمار، بأنها تركز في هذه الخطوة على الدراسة التي أعدتها، والدراسة التي أعدها البنك الدولي أمر غريب، خصوصا في ما يخص دراسة البنك الدولي، فكم من الدراسات والتقارير قدمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولم تأخذ بها الحكومة، ولا الهيئات التابعة لها؟! ولكن هيئة الاستثمار قررت فجأة الأخذ بهذه الدراسة وتطبيقها، وكان عليها التريث قبل السعي لتطبيق دراسة أعدها البنك الدولي منذ أكثر عقدين من الزمان، فكثير من الدراسات التي قدمها البنك الدولي لأكثر من دولة، وخصوصا في مجال بيع المساهمات الحكومية في الشركات والخصخصة، جاءت بنتائج كارثية على هذه الاقتصادات، وتسببت في زيادة وارتفاع نسب البطالة، وتسببت أيضا في عمليات نهب وتنفيع خلال عمليات البيع هذه، والأمثلة على ذلك كثيرة، وخير مثال على ذلك ما حدث في جمهورية مصر العربية، في عمليات بيع مساهمات الدولة في الشركات، وعمليات الخصخصة التي تمَّت مطلع التسعينيات أيضا، وما صاحبها من نهب وفساد وتنفيع، ومع تسليمنا أن هناك اختلافا بين عمليات الخصخصة، وبيع مساهمات الدولة في عدد من الشركات، إلا أن الأمر لا يخلو من أوجه للفساد، ونحن لا نود تكرار هذه التجارب في الكويت، فالكثير من الدراسات التي يقدمها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي تقوم على أغراض سياسية في المقام الأول، ويكون من ورائها أهداف خفية.
هروب.. أم مصالح خاصة؟
ولا يزال الهدف الحقيقي للخطوة التي تعتزم هيئة الاستثمار القيام بها من بيع جماعي لمساهماتها المحلية مجهولا، فهل تفكير الهيئة في بيع جميع حصصها في الشركات المحلية، يأتي هروبا من تعثر هذه الشركات؟ أم هو تخطيط لتوجيه هذه السيولة إلى الخارج، واستثمارها في شركات خارجية لا تكون الرقابة فيها على الدرجة نفسها في الداخل؟! فالمؤكد أن الرقابة من ديوان المحاسبة على الاستثمارات الخارجية ليست على نفس مستوى الرقابة على الشركات المحلية، فالرقابة في الخارج تقتصر على موظف واحد يمثل الجهة الرقابية في المكاتب الخارجية لهيئة الاستثمار. هذا على المستوى الرقابي.. أما على مستوى المواطن البسيط، فإن الكثير من المواطنين لا يعلمون شيئا عن المساهمات الخارجية لهيئة الاستثمار، وبالتالي الكثير لن يلاحظ تخبط «الهيئة» فيها، فهذه الاستثمارات بعيدة عن أعين الجميع، والكثير لا يتابع الأخبار الخاصة بالجهات المستثمَر فيها، ومن ثم، فإن خسارة هيئة الاستثمار في هذه الاستثمارات لن يعلم بها الكثير.. أما الاستثمارات الداخلية، فإنها امام أعين الجهات الرقابية، وأمام أعين المواطنين أيضا، وأي تعثر فيها سيكون صداه كبيرا.
يضاف إلى ما سبق، أن الهيئة العامة للاستثمار، إذا كانت تعتزم توجيه هذه السيولة إلى الخارج في استثمارات جديدة، فإن هذه الاستثمارات بالتأكيد ستحتاج إلى عدد من الموظفين لمتابعتها، ومن ثم سيتم إيفاد مجموعة من الموظفين، وهذا الأمر يصاحبه الكثير من المزايا والبدلات، وبالتأكيد لن يتم إيفاد إلا المقربين من الموظفين، وأصحاب الواسطات.
أين دور «الهيئة»؟
ولو أن هيئة الاستثمار نفذت توجهها ببيع جميع مساهماتها المحلية، فإنها بذلك تخالف الدور الذي أسست في الأصل من أجله، فهيئة الاستثمار، ووفقا لمرسوم تأسيسها عليها دور مهم في دعم الاقتصاد الوطني، فهي ووفقا لما تديره من أموال الدولة، يجب عليها تشجع مبادرات القطاع الخاص بالمشاركة في تمويل وإنشاء الشركات، وتنشط دور القطاع الخاص، وتوفر السيولة اللازمة لمواجهة احتياجات الخزانة العامة وقت الحاجة، وعليها دور مهم في المساهمة في العديد من المشاريع والشركات المحلية البارزة، وكذلك في قطاع المؤسسات المالية الاستثمارية، مثل البنوك وشركات التأمين، وبتخليها عن مساهماتها المحلية وبيعها للقطاع الخاص، فإنها سوف تتخلى عن هذه الاستثمارات، ومن ثم سيتلاشى دورها في دعم الاقتصاد المحلي.
أما من ينادون بضرورة قيامها ببيع الاستثمارات المحلية، وإفساح المجال أمام القطاع الخاص لممارسة دوره، فإننا لسنا في حاجة إلى تذكير هؤلاء بما حدث للقطاع الخاص عند تعرضه لهزة خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وتعثره الذي ما زلنا نعانيه حتى الآن، وما نجم عن ذلك من طرد للعمالة الوطنية، وهي المشكلة التي لم تحل إلى الآن، وما زالت الدولة تدفع رواتب لهؤلاء المسرَّحين حتى اليوم، لذلك نستغرب من أمر الذين يطالبون بإعادة بيع ملكية هيئة الاستثمار مرة أخرى إلى القطاع الخاص، متعللين بأن هذا الأمر خطوة في الاتجاه الصحيح نحو مزيد من تفعيل دور القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني، وأن ذلك من شأنه منح هيئة الاستثمار مجالا فسيحا للتركيز على أعمالها الأساسية، والتفرغ للتفكير في مشاريع استثمارية استراتيجية محلية وتنفيذها. ولا ندري على أي أساس تقوم هذه المطالبات ببيع أملاك الشعب إلى شركات القطاع الخاص، فالقطاع الخاص في الكويت لا يستطيع الصمود في وجه أي هزة مالية، حتى لو كانت بسيطة، وعند أي أزمة يصرخ القطاع الخاص ويطالب الدولة بالتدخل لإنقاذه، ومن ثم، سنجد تدخلا جديدا لهيئة الاستثمار وشراء حصص في شركات القطاع الخاص، ونظل ندور في هذه الحلقة المفرغة، ويتحمَّل المال العام الكثير من الخسائر، من أجل دعم هذه الشركات وإعادتها إلى الطريق الصحيح مرة أخرى. الأمر الآخر، أن بيع كل حصص هيئة الاستثمار في كل هذه الشركات للقطاع الخاص مرة أخرى سيكون مجالاً خصباً للتلاعب في الأسعار، وفرصة مناسبة للباحثين عن التنفيع ونهب أموال المواطنين، ما يطرح السؤال حول السبب في التفكير في بيع جميع مساهمات «الهيئة» في هذا التوقيت. فالهيئة العامة للاستثمار تساهم في نحو 102 شركة، وبالتأكيد بيع كل هذه المساهمات لن يكون بالشفافية التي يطمح إليها الجميع، كما أن بيع كل هذه الحصص سيكون كارثة على الاقتصاد، وقد يهبط بأسعار أسهم كثير من الشركات، ما يضر بالكثير من مساهميها.
تنفيع أصحاب الشركات
ومن المعروف للجميع أن تملك الهيئة العامة للاستثمار للكثير من المساهمات في العديد من الشركات، جاء نتيجة أزمات مالية مرَّت بها البلاد، أو مرَّ بها العالم، حيث صدرت خلالها قوانين وقرارات دفعت «الهيئة» على مثل ذلك التملك، ومع عزم «الهيئة» على بيع هذه الحصص مرة أخرى للقطاع الخاص، وإعادة ملكية تلك الأسهم مرة أخرى إلى الشركات نفسها، أو حتى شركات أخرى، فإن هذه الشركات ستحقق الاستفادة على حساب أموال المواطنين، فعندما اشترت الهيئة العامة للاستثمار حصصا في هذه الشركات، كان بعضها متعثرا، وظلت هذه الشركات على هذه الحال أعوام عدة، منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، ومن ثم، لم تحقق «الهيئة» أي مكاسب مالية خلال هذه السنوات، بل تحمَّلت خسائر كبيرة في هذه الشركات، وهذا الأمر أشارت اليه تقارير ديوان المحاسبة، وعندما تحسنت أوضاع هذه الشركات وبدأت تحقق الأرباح، تسعى الهيئة الآن إلى بيع حصصها فيها، من دون تحقيق أي استفادة مادية، ومن ثم، فإن هيئة الاستثمار بهذا الأمر خدمت ملاّك هذه الشركات على حساب المال العام، وكان الأجدى بالهيئة الانتظار وجني المكاسب من هذه الشركات، وتعويض ما خسرته خلال الأعوام الماضية، ثم التفكير بعد ذلك في بيع حصصها فيها.
عوائد مالية
أما ما ذهب اليه البعض، من أن بيع هذه الحصص سوف يحقق لهيئة الاستثمار عوائد مالية تستطيع استثمارها محليا في شركات ومشاريع استراتيجية محلية تحقق منافع عديدة على الصعيد الاقتصادي، فهذا كلام ليس بمحله، فـ«هيئة الاستثمار» ليست في حاجة إلى أموال لتبيع هذه الحصص، بل إن لديها من الفوائض المالية الكثير والكثير الذي لم يستغل بعد، ثم ما الفائدة من بيع حصص في شركات، وشراء حصص في شركات أخرى؟ هل الهدف هو ضخ أموال في هذه الشركات، وانتشال أصحابها من الإفلاس على حساب المال العام، بعد الأخطاء الجسيمة لمجالس إداراتها في حق الملاك والمساهمين، لتأتي الهيئة في النهاية وتقدم لهم أموال المواطنين مكافأة على هذه الأخطاء؟!
ماذا لو أن أزمة مالية ضربت العالم مجددا؟
تملك الهيئة العامة للاستثمار لكمية كبيرة من مساهمات في العديد من الشركات، لم يكن في الواقع محض رغبة منها، بل جاءت عملية التملك نتيجة أزمات مالية مرَّت بها البلاد، حيث صدرت خلالها قوانين وقرارات عدة أجبرتها على هذا التملك، ومع عزمها بيع هذه الحصص إلى القطاع الخاص، فإن هذا الأمر يطرح سؤالا في غاية الأهمية، ماذا لو أن أزمة مالية جديدة ضربت العالم مرة أخرى، هل ستقدم «الهيئة» على شراء هذه الحصص مجددا؟