ضمن عروض «استديو الأربعاء»: «ناجي العلي».. الجدل القائم حيا وميتا

نور الشريف يمثل دور ناجي العلي في لقطة من الفيلم
نور الشريف يمثل دور ناجي العلي في لقطة من الفيلم

كتب محمد عبدالرحيم:
لندن.. الساعة 5:13 بعد عصر يوم الأربعاء، 22 يوليو 1987، يسير ناجي العلي مُتأبطاً رسوماته، متجهاً إلى جريدة «القبس الدولية»، ومن شارع إلى آخر، حتى انعطف ودخل شارع «إيفز» – وسط لندن، حيث يقع مكتب الجريدة. لم يلحظ ناجي «الشاب» كثيف الشعر الأسود الذي كان يتابعه قبل بداية انعطافه الأخير، كان الشاب يرتدي سترة جينز أزرق فاتح، يُماثل سماء لندن الباهتة، وفي سرعة خاطفة أخرج مسدسه وأطلق رصاصة واحدة اخترقت رأس ناجي من ناحية اليمين، من دون أن تستقر فخرجت من اليسار.. ناجي الآن مُلقى على الأرض، ملامح وجهه مُنعكسة في الدم المُسال، وصوت خطوات قاتله يتباعد في سرعة شديدة وعصبية أشد، اهتز المكان وتوافد البعض، كل وفق إيقاعه، حتى تم نقل ناجي إلى المستشفى، ليظل في غيبوبة لمدة 38 يوماً يصارع الموت، الذي انتصر عليه في النهاية، وأوصله إلى مقبرة مجهولة في لندن خاصة بالمسلمين اسمها «بروك وود» وتحمل رقم 230191.

فيلم «ناجي العلي»

عرض «استديو الأربعاء» فيلم «ناجي العلي» (1937 – 1987)، الذي يحكي مسيرة حياة فنان الكاريكاتور الفلسطيني، حتى اغتياله الغامض في لندن.

الفيلم إنتاج 1991 من بطولة نور الشريف، محمود الجندي، ليلى جبر وأحمد الزين، سيناريو بشير الديك ومن إخراج عاطف الطيب.

وتبعاً لمواقف «ناجي العلي» من الأنظمة العربية، وخاصة السلطة الفلسطينية ــ منظمة التحرير وقتها ــ فقد لاقى الفيلم مصير صاحبه، وتم اغتياله إعلامياً، ما أدى إلى اتهام صُناعه بقائمة التهم الجاهزة لدى أي نظام تجاه أعدائه، وهو هنا النظام المصري المُتحالف مع السلطة الفلسطينية، الذي انتقده ناجي العلي بشدة بعد حرب 1973، وزاد هذا الانتقاد، بعد توقيع السادات لمعاهدة «كامب ديفيد» الشهيرة، حتى يوم موته.
يحاول الفيلم عبر تتبعه لحياة ناجي العلي، أن يكشف عن الفارق الهائل بين المناضلين وأنظمة الحكم العربي المتواطئة ــ حتى الآن ــ حتى تحتفظ بسلطتها فوق رقاب رعاياها، من ناحية أخرى يكشف عن المصير المحتوم لكل فكر عربي قومي (ناجي ورفاقه كمثال) في مجتمع عربي فاسد، إن لم يستطع شراء الفرد، يكون قتله هو الحل الأخير.

ناجي العلي
ناجي العلي

السرد

يبدأ الفيلم منذ لحظة اغتيال ناجي العلي في لندن، وهو متوجه في الصباح إلى عمله بجريدة «القبس الدولية» عام 1987، ليتم نقله إلى المستشفى، ويظل في غيبوبة يصارع الموت طوال 38 يوماً، انتهت بموته. وخلال هذه الفترة عن طريق تكنيك الفلاش باك يتم سرد حياة ناجي، منذ طفولته في مخيم «عين الحلوة» وبداية حياته المأزومة، ومواقفه السياسية، والانتماء إلى القومية العربية، ما عرَّضه للاعتقال من سلطات الاحتلال، حتى تجواله في العديد من الدول العربية، واستقراره في الكويت، وبدأ عمله في جريدة «الطليعة» الكويتية، لسان حال القوميين العرب، ثم اختراعه لشخصيته الشهيرة «حنظلة» عام 1969 الطفل الذي في العاشرة من عمره، والذي لن يكبر حتى يعود ويعيش في وطنه المفقود، معطيا ظهره للجميع عام 1973. خلال ذلك تأتي محاولات الاغتيال العديدة والتهديدات المستمرة لناجي، من دون معرفة يقينية لجهة واحدة تريد التخلص منه، فهناك التحالفات العربية، ومنظمة التحرير، والموساد الإسرائيلي.. كل هذه الجهات تريد التخلص من رسام كاريكاتور يقلقها ويذكرها دائماً بخياناتها وخيباتها التي لا تغتفر. وخلال حالة الغيبوبة هذه يتم رسم اللحظات التي كوّنت شخصية ناجي العلي ومواقفه الحادة تجاه العالم والآخرين، المحبين له والكاره لهم، وخاصة ممثلي السلطات العربية ومواقفهم المتخاذلة تجاه القضية الفلسطينية، سياسة الاستسلام التي تتنفسها أنظمة الحُكم العربي، وهي الأنظمة التي لا تستطيع شخصية ناجي التوافق معها أو حتى التواصل، ليبدو هذا في التنقل المستمر من مكان لآخر، والعمل لدى صحف تتوتر علاقته بها وفق توازن مصالحها مع المحيط العام، مهما كانت تتبنى وجهة الخطاب التقدمي والبيانات الحماسية التي تتصدر افتتاحياتها، حتى إن مجلة الكرمل، وهي المعروفة بأفكارها التقدمية، لم تنع ناجي بمجرد كلمة عند موته. حالة التوازنات هذه لم يأبه لها ناجي، وتعامل مع الأمر بمنطق «الفنان»، والفن دوماً لا يحده واقع، والذي أبداً يكون له بالمرصاد.

«حنظلة»

من أعمق لحظات الفيلم لحظة ميلاد «حنظلة» في خيال ناجي العلي/نور الشريف، فقد أخذته لحظات من سِنة، وارتعشت أصابعه، وهو لم يزل على حالته، يستلقى على أريكة، ثم ينهض فجأة، فيرسم ما تلاه عليه خياله، لتخرج صورة «حنظلة» الطفل الذي لم يتعدَ العاشرة حتى الآن، ولن يتعداها.

ويقول ناجي عن هذه الشخصية التي أصبحت كالأيقونة تدل على صاحبها «اسمي: حنظلة واسم أبي (مش ضروري)، أمي اسمها: النكبة، جنسيتي: أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش كويتي، مش مصري، مش حدا.. إلخ.. باختصار معيش هوية ولا ناوي.. محسوبك إنسان عربي لهجته مصرية وفلسطينية وسودانية».

كان حنظلة الذي جاء إلى الحياة عام 1969 في البداية صبياً مرة، مقاتلاً أو شاعراً مرات، وجندياً يخوض المعارك، إلا أنه بعد حرب 1973 أدار ظهره للعالم، وتشابكت يداه الصغيرة إلى الخلف، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. ويفسر ناجي نفسه هذه الحالة الفريدة من عمل فني أصبح يتنفس أكثر من صاحبه، وخاصة في عالمنا العربي.. «ولد حنظلة في العاشرة في عمره، وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه، لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء.. كتّفته بعد حرب أكتوبر 1973، لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة».

المواطن العربي ووهم الجيوش العربية

تعرَّض ناجي وشهد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وعن طريق مشهد دال لرسم هذه الحالة على المواطن العربي، جاء دور «محمود الجندي« شخصية المواطن العربي الذي لم يجد إلا الخمر، ليحاول فهم ما يحدث، أو أن يغيّب عقله ويرى بخياله، في محاولة منه لفك طلاسم الواقع من حوله.. وبالطبع، جاءت عباراته الهاذية لترسم واقعا أكثر قسوة ومرارة، فهو ينتظر قدوم الجيوش العربية، ويتساءل عن ميعاد مجيئها، وينتهي به الأمر ميتاً في النهاية برصاصات لا ولن يعرف مصدرها.

حالة الاغتراب العام

نجح الفيلم إلى حدٍ بعيد في رسم حالة الاغتراب العامة التي يحياها أصحاب الأفكار التي تعاني أنظمة الحُكم العربي، أكثرهم بداهة لهذه الحالة هو ناجي العلي بالطبع، لكن الإحساس بهذه الحالة يتسرَّب ويصبح أشد تأثيراً عند مواطني البلاد العربية التي عمل ناجي بها واستقر – أهل البلد الأصليين، الذين يعيشون ويعملون في بلادهم – هنا تبدو حالة الاغتراب أكثر وأشد وطأة.

هذا التيار من التقدميين والحالمين بفكرة عليا تجتمع حولها البلاد العربية لا مفر أمامهم سوى مواصلة أحلامهم – التي تحولت في وقتنا الراهن لأحلام يقظة – واغترابهم أكثر عن واقع لا يرحم، فالاغتيال المادي الذي تجسد في شخص ناجي العلي، يقابله اغتيال معنوي يومي لمواطني هذه الدول العربية، من شرقها إلى غربها، وهي حالة لم نزل نلمحها في وجوه الكثيرين حتى الآن.

شبهات حول موت ناجي

حاول الفيلم ألا يشير إلى جهة محددة تكون هي المسؤولة عن عملية الاغتيال، لكنه أشار إلى توافق وتحالف العديد من القوى – المتقاتلة في الظاهر – والتي توافقت عملياً على قتل ناجي، كما سبق وأسلفنا بداية من الموساد الإسرائيلي، مروراً بمنظمة التحرير وعلى رأسها ياسر عرفات ورجاله من الأمن والمثقفين المرموقين، منهم محمود درويش على سبيل المثال، والذي قام بتهديد ناجي أكثر من مرّة، كما ذكر شاكر النابلسي في كتابه «أكله الذئب»، والذي منع ياسر عرفات إعادة طبعه مرّة أخرى عام 1999، مُحذراً دار النشر (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) من إعادة طبع الكتاب، وإلا سيمنع إصداراتها ومطبوعاتها من الدخول إلى المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية.

الغنائية المُفرطة

لم ينج الفيلم من الغنائية التي تسم هذا الشكل الفني – أفلام سِيَر الشخصيات – وخاصة أن صُناعه لم تغادرهم حالة الانبهار بالشخصية التي يحكون تاريخها، امتد ذلك إلى رفاق ناجي نفسه المتوافقين معه فكرياً، والمحاولين تجسيد الأفكار القومية التي أُجهضت أحلامها بعد هزيمة 1967، لذا حاول الفيلم أن يكون حيادياً في عرض تفاصيل وملابسات الحالة التي أدت في النهاية لاغتيال ناجي العلي، من دون أن يكون حيادياً تجاه ناجي نفسه، فجاءت المشاهد العديدة كمنولوجات تسرد أفكار وأحلام ناجي، وخرجت عن الإطار السينمائي إلى الشكل المسرحي غير الموظف سينمائياً.

الحال نفسها في عبارات المواطن العربي المخمور، التي رغم بلاغتها ودلالتها، إلا أنها موسومة بمراهقة نضالية تدغدغ مشاعر الحالمين، كالعبارات الدائرة حول أبخرة الشاي ودخان السجائر الكثيف في الزوايا النقاشية لفئة عطّل كلامها فعلها. بالفعل، قدَّم الرجل روحه ثمناً لحلمه، ورد عليه ناجي لتتوحد نهايتهما بفعل الاغتيال – الرجل المخمور مصري الجنسية، دلالة على انفصال الرأي العام في مصر عن الرأي السياسي، تجاه القضايا العربية.

ولا نجد في النهاية إلا كلمات ناجي نفسه حيث يقول «الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة, إنها بمسافة الثورة».

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.