تقرير : ماجد الشيخ
في البدء كان الإسلام، أما في أيامنا هذه فهناك «إسلامات» متعددة، ولم يعد هناك إسلام واحد. المفاهيم الشتى عن الإسلام، كدين ومعاملة، خلقت وتخلق العديد من «الإسلامات» المتنافرة والمختلفة؛ مثل هذا التعدد كان يمكن أن يسفر عن تنوع وغنى، لكن المفاهيم الشوهاء والتأويلات التي وصلت إلى حدود التقويل، أفقر الأحزاب والفرق والتيارات الدينية، وجعل منها ومن سياسييها عالة على الإسلام نفسه، فـ «الإسلام السياسي»، وهو يخوض اليوم معارك لا حصر لها مع ذاته ومع أمثاله وأشباهه، فضلاً عن غير المتماثل معه من فرق طوائفية ومذهبية، باعتبارها خارجة عن «الإجماع والسنة»، مثل هذا «الإسلام السياسي» ذهب بعيداً في «اختراع» الأعداء، بل في العمل على «استكشافهم» والصدام معهم، وخوض حروب «داحسية» و«داعشية» لا أولويات ولا مآلات لها على الإطلاق، فهي حروب مطلقة، والحروب المطلقة لا نهاية لها.
وفي مقاربة أو مقارنة بين إسلام وإسلام مساحة واسعة للتفكر واستنباط واستنتاج أحكام الضرورة العقلانية، تلك التي لا تماري ولا تداهن ولا تكذب، أو تجمّل قبائح ليست من طينة الحقائق العنيدة التي يحفظها التاريخ، كما الذاكرة التاريخية الجمعية لبشر أسوياء، ما باعوا عقولهم ولا أجرّوها أو ساوموا على نتاجها واستنتاجاتها وتفسيراتها الأكثر نورانية، في مقابل تفسيرات واستنتاجات ظلامية، لم تعد تخفى لا على القاصي ولا على الداني.
تديّن.. يبيح بيع البشر!
وأخيراً، وفي توجه يعبّر عن محاولة إعادة عصور الرق والعبودية، وباسم الدين، أكدت وتؤكد «بوكو حرام» ذاك النوع من الاستنتاجات السوداء الظلامية، حين اختطفت العشرات من الطالبات في نيجيريا «لبيعهن في الأسواق» كما نقلت الأنباء، بالإضافة إلى ما نسب إلى زعيم تلك الحركة، المتشدد والمدعو أبوبكر محمد شيكاو، الذي أعلن عبر ما نسب إليه من شريط فيديو، قوله «أحب أن أقتل من يأمرني الله بقتله، تماما كما أحب قتل الدجاج والأغنام»، ما اضطر المفوضة السامية لحقوق الإنسان، نافي بيلاي، لإصدار بيان يدين بشدة اختطاف 200 فتاة من مدرسة في شمال نيجيريا من قِبل جماعات مسلحة، تنتمي للجماعة الإرهابية المسماة «بوكو حرام»، وجاء في البيان أن التهديد باستخدام المخطوفات سبايا أو بيعهن كالجواري، قد يرتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية.
وطالبت المفوضة السامية بإطلاق سراح المختطفات، من دون قيد أو شرط، وإعادتهن إلى بيوتهن، وبأقصى سرعة ممكنة، في الوقت الذي خاطب فيه زعيم «بوكو حرام» الفتيات «لقد خطفتكن أيها الفتيات وسأبيعكن في السوق بإذن الله.. هناك سوق لبيع البشر، وقد أمرني الله أن أبيع هؤلاء الفتيات».
الرئيس الملك أميراً للمؤمنين!
وفي يوم واحد من عدد «القدس العربي» في أوائل أبريل الماضي، مقالان عن «إسلامين» فيهما من التناقض الشديد، ما يجعل من تنافرهما، وكأنهما لا صلة لهما بأي أصل، أو باستنادهما إلى ذات المرجعيات والسرديات والمرويات الدينية التي صدر عنهما «الإسلام».
في المقال الأول يصور كاتبه (عبدالله مولود) سلوك أحد الزعماء الأفارقة، مشبها إياه بصورة ما عن القذافي، (إنه الرئيس الغامبي الحاج يحيى عبدالعزيز جامي، الذي فاجأ العالم أخيرا بمتتالية من القرارات الغريبة: فقد أعلن التخلي عن اللغة الانكليزية لغة «المستعمر»، واعتماد اللغة العربية لغة رسمية لبلد نادر فيه من يعرف الأبجدية العربية، كما يعد لإعلان غامبيا مملكة إسلامية، ولإشهار نفسه «سلطانا وأميرا للمؤمنين»).
ولرئيس غامبيا وملكها المقبل، وفق ما يؤكد العارفون، ولع كبير بالنساء، حيث يتزوج باستمرار أربع فتيات، ويستبدلهن بأربع أخر ضمن دورة جنسية مشحونة بشبق نادر لا يقاس بما يروى عن ملك ملوك أفريقيا «معمر القذافي».
عدل وتسامح أكبر العظيم
في المقال الثاني، ينقل الكاتب د.علي محمد فخرو عن كتاب «فكرة العدالة» للكاتب الهندي الأصل والفيلسوف الشهير، الأستاذ في جامعة هارفرد الأميركية، إماراتيا سن، إشارته إلى أن أصل قيم العقلانية والأخوة والتسامح والعدالة في القانون، لم تولد في حقبة الأنوار الأوروبية كما يُعتقد، وإنًّما سبق إلى الإيمان بها، بل وتطبيقها، أناس آخرون في تاريخ البشرية الطويل، لذا، وبفخر واعتزاز، عندما يتحدث عن بعض متطلبات تواجد العدالة واستمراريتها في المجتمعات، من مثل العقلانية والتسامح والانفتاح على الآخر، يشير إلى الإمبراطور المغولي المسلم الشهير، المسمى بأكبر العظيم، يشير إليه كمثل للعقلانية والتسامح.
إمبراطور المغول هذا، قام في بداية الألفية الثانية الهجرية، منتصف القرن السادس عشر الميلادي، عندما كانت أوروبا تعيش في ظلام الحروب الدينية، وجنون محاكم التفتيش التي كانت تحرق النساء البريئات باسم محاربة الهرطقة والسّحر الشيطاني، هذا الإمبراطور أعلن على الملأ بأن العقلانية، وليست التقاليد والأعراف، هي التي يجب أن تحكم التعامل مع القضايا الصعبة في حقول السلوك وبناء مجتمع العدل.
وفي الحال، قام بمراجعة هائلة للقيم الاجتماعية والسياسية، وللممارسات القانونية والثقافية في المجتمعات التي كان يحكمها. هذه المراجعة قادت الإمبراطور إلى حصيلة من المبادئ والممارسات التي يشيد بها الكاتب، منها: التركيز الشديد على أن العلاقات في ما بين مكونات المجتمع (المسلمين وغير المسلمين) يجب أن تكون تعاونية، تؤدي إلى السلم الأهلي. ومن أجل ذلك، تبنَّى المبدأ الصوفي (السلام للجميع) أساساً لملكه الامبراطوري. شرع مبدأ التسامح الديني في امبراطوريته، التي كانت فيها أعداد كبيرة من غير المسلمين، وعلى الأخص أتباع الدًّيانه الهندوسية. شرع بأنه لا يجوز التدخل في حياة الناس بسبب انتماءاتهم الدينية، وثبّت حقهم في الإيمان بالدين الذي يرغبون.
ومن أجل التفاهم بين الأديان، دعا إلى لقاءات دورية في عاصمة الامبراطورية بين علماء الديانات التوحيدية وغير التوحيدية، بل والإلحادية، وذلك بقصد التعرّف على الآخر، واحترام حقوقه والتمهيد للإعلان الرسمي عن أسس الدولة المدنية التي تمارس الحياد بين الأديان وأتباع الأديان. وثبت مبدأ أنه ليس من العقل أن تتصرف جماعة بطريقة تؤدّي إلى إيذاء الآخرين.
لذلك، ألغى نظام ما كان يعرف بـ«العبودية الامبراطورية» على أساس أنه خارج العدالة والسلوك السَّوي أن يستفاد من استعمال القوة، ثم أتبع ذلك بإلغاء جميع الضرائب الخاصة المفروضة على غير المسلمين، أي الجزية، على أساس أن ذلك ضد مبدأ المساواة بين مواطني الامبراطورية. وكجزء من فهمه للعقلانية والعدالة، أعلن معارضته لزواج الأطفال على أساس أن الهدف من الزواج لا يمكن أن يتوافر في مثل هكذا زواج، ولأن هناك إمكانية إيذاء للأطفال، وهو المنطق نفسه الذي دعاه لمحاربة الممارسة الهندوكية التي كانت لا تسمح للمرأة الأرملة بالزواج مرة ثانية، على أساس أن ذلك هو ممارسة غير عادلة.
هكذا، تؤكد مقاربات ومقارنات المسلكيات البشرية، أن ما يصدر عن العقل ليس رهين الخرافة، ولا يمكن أن يبقى أسير العادات والتقاليد، بقدر ما هي ممارسات التكفير والتخوين الديني كما السياسي، رهائن للأسطرة والتخريف والتحريف، الأمر الذي يؤكد، وبالمطلق، أن المفاهيم الشتى والمختلفة، عن هذا الدين أو ذاك، هي من صنائع بشر لهم غاياتهم وأهدافهم ومراميهم، في حين أن الطوبى أو طوباويات «المعرفة الدينية»، ليست أكثر من اتجاه أو توجه، لا يخلو من الغاية والهدف والمرامي السلطوية الذاتية والمصالح الزبائنية.