
كتب محمد جاد:
تعوَّد العرب أن يكون يوم النكبة هو يوم العويل والتباكي، وتسويد المئات من أوراق الصحف، وإعادة فتح الملفات التاريخية في أغلبها، للبحث من جديد، والعودة إلى النقطة الأولى عن الأسباب والمُسببات لما حدث، وهي النقطة نفسها التي يتم البدء منها في العام المقبل والذي يليه، إضافة إلى الندوات والمؤتمرات في الدول العربية وخارجها، يتخللها عروض بعض الشرائط الوثائقية والقصائد الشعرية وأغنيات الأجيال الصاعدة، لينتهي اليوم وقد طمأن الجميع أنفسهم بأنهم لا يزالون يستطيعون مواصلة النضال.
ولتغيّير البوصلة قليلاً، نستعرض هنا آراء الجانب الآخر (الإسرائيلي) من هذا الحدث الذي وضع العرب في لحظة تاريخية لم يستطيعوا الفكاك منها حتى الآن.
الاقتراب من المحاذير
جاءت افتتاحية جريدة «هآرتس» في ذكرى النكبة، لتعترف رسمياً بالكارثة التي حلّت بالفلسطينيين بالقول «إنها كارثة تستوجب الاعتراف والتدريس، ليس فقط لفهم دوافع القيادة الفلسطينية السياسية والدبلوماسية حين تأتي لمفاوضتنا، بل أيضاً كجزء من واجب حضاري وإنساني».
وبالطبع، اختلفت آراء اليمين واليسار الإسرائيلي حول هذه العبارات.. فبينما يرى اليمين أن النكبة هي جرّاء مسؤولية الفلسطينيين عن أفعالهم وأفعال قاداتهم، كما اتهموا الجريدة بخيانة إسرائيل والصهيونية، يرى اليسار أن هذا الاعتراف ما هو إلا خطوة في الاتجاه الصحيح، بهدف البحث عن حل.. ومما يُحسب للجريدة التي تطالب بتدريس هذه الواقعة ــ التي تحولت إلى واقع ــ في المناهج الدراسية، هناك نقطة أخرى أهم، وهي أن الحديث عن أمر النكبة في الصحف كان من أشد المحظورات التي تفرضها إسرائيل على صحفها ووسائل إعلامها.
الذاكرة والتعليم
ويرى أحد الباحثين الإسرائيليين، أنه رغم توصية الصحيفة الإسرائيلية بضرورة تدريس واقعة النكبة، من خلال المناهج التعليمية في إسرائيل، فإن كلا من الطرفين يحاول الاحتفاظ بذاكرته حيّة ــ كل وفق وجهة نظره ــ فبينما يؤكد الفلسطينيون من خلال مناهجهم التعليمية، أن ما حدث هو طرد وتهجير بالقوة ــ يحدث هذا من سن الطفولة في المدارس ــ يقوم الإسرائيليون بتبني وجهة نظر الحق التاريخي والتوراتي، وربما إيجاد صيغة متوازنة بين المنهجين، وأن يصبح الحل الأخلاقي هو الهدف الأمثل، حتى تتسنى إمكانية التعايش والتسامح، ما يشكل الخطوة الأولى على الطريق الصحيح، رغم وقوف أغلبية كل فريق واتحادهم فقط في رفض هذا المبدأ.
الموقف الشعبي
الأمر يعدو أكثر صخبا على أرض الواقع من خلال الأصوات المُعارضة من الإسرائيليين لسياسات إسرائيل، وهم رغم قِلتهم، فإنهم في ازدياد، ومظاهر نشاطهم تربك الحكومات الإسرائيلية، وخاصة مع تصدير مسألة «الضمير الإنساني»، وأن إسرائيل دولة فاشية، رغم الزعم الدائم بديمقراطيتها المزيفة، وخاصة أنها مُحاطة بدول نظامها السياسي يُعد من عتاة الاستبداد.. كل هذه المظاهر من الاحتجاجات والتظاهرات تتم بمشاركة فلسطينيين، بهدف الاعتراف بمُعاناة الآخر، والسعي إلى إنهاء الصراع.
عرب ويهود
واللافت أن ظاهرة وجود العرب واليهود في موقع وموقف واحد من هذا الحدث في ازدياد دائم، فقد أقامت حركة «مقاتلون للسلام»، التي ينشط فيها ناشطون إسرائيليون وفلسطينيون كانوا جزءا في الماضي من دائرة العنف في المنطقة ويدينونها اليوم، مراسم لذكرى ضحايا النزاع في كل من الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، كما أقيمت في جامعة تل أبيب تظاهرة خاصة، إحياءً لذكرى النكبة، شارك فيها حوالي 300 طالب عربي ويهودي رفعوا صوراً لأقرباء لهم، وقرأوا شهادات لفلسطينيين هُجّروا من بيوتهم أو اقتُلعوا من قُراهم خلال حرب 1948، وأكدوا .. «بدأت كارثة الشعب الفلسطيني عام 1948، ولا تزال مستمرة حتى اليوم».
إراحة الضمير ومحاولة الحياة
ويرى باحث آخر، أن موقف اليسار الإسرائيلي مما يحدث، ما هو إلا صورة أو مظهر من مظاهر إراحة الضمير ــ راجع بعض الأعمال الفنية التي تناولت القضية ــ لكنه في الوقت نفسه البحث عن معنى إنساني ومعاناة إنسانية تقع تحت بصر اليسار الإسرائيلي، وخاصة الجيل الجديد منه، والمتضامن فعلياً مع الجانب الفلسطيني، هذا الجانب الذي يُناضل أغلبيته في جهة أخرى تماماً، وهو أن يظل على قيد الحياة، من خلال البحث عن فرصة عمل، وإعالة أسرة وأطفال، فلا يهمه ماذا ستقول عنه صحيفة إسرائيلية، وهل ستُغيّر وجهة النظر الجديدة في ما حدث حياة هؤلاء بالفعل!