ضمن عروض «استديو الأربعاء»: Bal.. رحلة في النفس الإنسانية

ملصق الفيلم
ملصق الفيلم

كتب محمد عبدالرحيم:
عُرض أخيراً ضمن البرنامج الأسبوعي لـ «استديو الأربعاء» – التابع لـ «نادي الكويت للسينما»، الفيلم التركي Bal «عسل» للمخرج وكاتب السيناريو سميح أوغلو، الحائز جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الـ 60. الفيلم إنتاج 2010، وهو الجزء الأخير من ثلاثية «أوغلو» المُسماة بـ«ثلاثية الروح». وقد سبقه فيلمان؛ الأول بعنوان «بيض»، والثاني باسم «حليب»، والثلاثية تستعرض حياة «يوسف» في مراحله الثلاث.. الكهولة والشباب والطفولة، ومدى التناغم ما بين هذه المراحل والطبيعة نفسها، حيث علاقة يوسف ببيئته وأسرته وتصوراته عن الحياة وصراعاتها.
الفيلم فلسفي أكثر من أن يكون سردا لحكاية شخص ما، وبالتالي من الممكن إسقاط هذه الحياة على وعي المُشاهِد، حتى إنه من الممكن أن يُعيد النظر في تفاصيل حياته وفق الحالة التي يصيغها المخرج بمهارة شديدة.

ثلاثية الروح

يبدأ أوغلو ثلاثيته بـ «يوسف» الكهل، وينتهي به طفلاً، وهي رحلة عكسية قام بها بطل الفيلم، ليحاول اكتشاف نفسه، وهي إرهاصة للمُشاهِد، حتى يسير مع يوسف في رحلته نفسها، وقد تورّط رغماً عنه في رحلة استسلم لها عن طيب خاطر.

السرد العكسي هذا جعل من طريقة السرد داخل الفيلم عبارة عن أسئلة حياتية دائمة، لا يأتي تفسير بعضها إلا في النهاية، وهذا ما يوحي بأن السيناريو تمت كتابته واكتملت قبل تنفيذ الأجزاء الثلاثة، التي بدأت في عام 2007، وانتهت عام 2010.. لذا كان من الضروي التعرض سريعاً للجزئين السابقين.

يوسف كهلاً

بدأ الفيلم بـ «يوسف» وقد تعدّى الثلاثين، يعود إلى قريته بريف تركيا، حيث الطبيعة وبساطة الحياة، الحياة التي هجرها إلى إسطنبول/المدينة، ليحقق حلمه في أن يكون شاعراً شهيراً، تتردد قصائده على الألسن. يعود يوسف عقب اتصال هاتفي يُخبره بجنازة أمه، وبعد انتهاء مراسمها، تخبره فتاة كانت تجالس أمه قبل موتها بوصيتها، بأن يقوم يوسف بذبح شاة.. ورغم استغراب يوسف لهذه الوصية، فإنه يمدد إقامته في القرية، حتى يُنفذ الوصية، ويستمع إلى الفتاة التي تردد بعض أبيات من قصيدة شهيرة له، يميل يوسف إلى الفتاة، ولكن ميعاد رحيله آن، ليتركها ويمضي في طريق عودته، إلا أنه يعود في لحظاته الأخيرة، ويصل إلى بيت طفولته، ليجد الفتاة وقد جاءت ببعض «البيض»، حيث تأخرت الدجاجات لعدة أيام، واليوم فقط أنتجت بيضاً رائعاً. كان هناك حلم يراود يوسف دوماً، بأنه يسير مُمسكاً بالعديد من البيض، إلا أنه يسقط منه في النهاية.

يوسف مراهقاً

في الجزء الثاني، المُسمى «حليب»، يستعرض أوغلو مراهقة يوسف، وحياته مع أمه، التي تقوم بحلب الأغنام، بينما يقوم هو ببيعها على مشارف المدينة وبين أهل القرية، يوسف الذي لا يجد في هذا العمل أي فائدة سوى مساعدة أمه، فيملأه الضيق دوماً، ويحلم بكتابة القصائد، ويحاول أن يقوم بنشرها في الصحف، الحياة هنا بين يوسف وأمه، أما الأب، فهو غائب على الدوام، ولم تأتِ سيرته، أو حتى الإشارة إلى مصيره، ينتهي هذا الجزء بمحاولات يوسف المستميتة في الوصول إلى المدينة عن طريق أشعاره، بروحه المفارقة للمكان، من دون جسده الذي ينتظر بفارغ صبر.

يوسف طفلاً
يوسف طفلاً

يوسف طفلاً

«عسل» هو الجزء الأخير من «ثلاثية الروح» وفيها يستعرض المخرج طفولة يوسف، ويُجيب عن بعض الأسئلة المُعلقة في الجزئين السابقين. فمعاناة يوسف هنا لها شكل آخر، فهو الطفل الصامت على الدوام، المُتناغم مع الطبيعة، والمُستمع لأصواتها، وهو الأمر الذي أدى به إلى حب الشعر ــ صوت الطبيعة الغامض ــ واحترافه بعد ذلك، حتى أصبح أشهر شعراء مدينته التي سيحلم بعد ذلك بالذهاب إليها. يوسف يُعاني «التأتأة« ولا يمتلك سوى مراقبة الأطفال في المدرسة، من دون القدرة على مُشاركتهم اللعب، ولا يتحاور سوى هامساً مع والده، الذي يقوم بجلب العسل، والبحث عن مكامنه ومكامن النحل، الذي يهجر القرية، فيفر الرجل خلفه، ويغيب.

يبدأ الفيلم بمشهد ليوسف مع أبيه، الذي سقط به فرع شجرة، وتعلق به الرجل من دون أن يسقط في اللحظة الأخيرة، ويوسف ينظر إليه، وعندما يتغلب يوسف بالفعل على عاهته (التأتأة)، ويعود إلى البيت، فرحاً لتشجيع المدرس له، يجد العديد من أهل القرية يتجمعون أمام البيت، ليعرف أن والده قد مات. ليصبح المشهد الافتتاحي هو حلم رآه يوسف، وأن الرجل قد سقط بالفعل ميتاً، وما تعلقه بفرع الشجرة، إلا لحظة زمنية متوقفة في وعي يوسف، وفق منطق الحلم، أو الرؤيا بالمفهوم الديني، الذي يغلف الحكاية بالكامل. وما يؤكد ذلك، هو ذهاب يوسف في النهاية إلى الغابة، مُستندا إلى إحدى الأشجار، ويُغمض عينيه لتستمر أحلامه أو رؤياه.

رحلة طويلة مُجهِدَة

الثلاثية عموماً، عبارة عن رحلة مُجهِدَة، للبحث عن خفايا النفس الإنسانية، تقلباتها وأمنياتها، وأفعالها التي تؤثر في مجرى الحياة بالكامل، شيء أشبه بفكرة «العود الأبدي» التي تحدث عنها «نيتشه»، ففعل ما، أو اختيار ما، حتى لو كان بسيطاً، سيكون له أعظم الأثر في الحياة، التي تتكرر وتيرتها وفق نتائج هذا الفعل أو ذاك. ففكرة نذر الأم بذبح شاة بعد موتها، وقيام يوسف بذلك، ليقطع صِلته تماماً بالقرية، حيث لم يعد ينتمي إليها، وقد فارقتها أمه، بعدما فارق أبوه الحياة، وتتركه الأم بهذا الفعل الأخير/القربان، ليتحلل من الوعد الثقيل بالعودة، في ظِل هذا الفعل، الذي طالما تمناه يوسف، وحلم به (الذهاب إلى المدينة)، فإذ به يعود إلى البيت مرّة أخرى بإرادة حرّة تماماً، ويظل بجوار الفتاة التي أحبها، الفتاة التي تحفظ في قلبها بعضا من أبيات أشعاره، وتنطقها بسلاسة وروعة، لم يعرفها يوسف من قبل، وقد عانى في طفولته بالكامل من التلعثم والتأتأة، لقد وجد مَن يفهمه ويتحاور معه بلغته، فاستقر في هذا العالم/الطبيعة، وترك صخب المدينة الوهمي، لكن.. كان لابد له من خوض التجربة، فالبيض الذي سقط منه في الحلم، ها هو الآن في شكل رائع أمامه، تضعه الفتاة بيدها في رفق شديد، وما رحلة البحث عن العسل، التي فقد والده على إثرها، واستنام يوسف الطفل جذع الشجرة بعدها في ملامح توحي بالسلام والهدوء الشديد، ما هي إلا تتويج معكوس لتذوق طعم هذا العسل بعد رحلة شاقة وطويلة من العذابات الحياتية، أملاً في هدوء الروح وراحة البال.
العديد والعديد من الرموز التي يمكن تفسيرها وفق حالة وروح كل مَن يُشاهد الفيلم، فلا توجد إجابات مباشرة على أسئلة مُفترضة، لكنها حالة شعورية كالقصائد، غامضة وحمّالة أوجه، يساعد على ذلك الإيقاع التأملي واللقطات الطويلة التي تثير الحِس أكثر من الفكر والحُكم العقلي. فالثلاثية بالكامل جديرة بالمشاهدة والتأمل، وكنا نأمل بأن يتم عرضها تباعاً وفق ترتيبها من خلال «استديو الأربعاء»، وليس فقط الفيلم الحاصل على جائزة عالمية في مهرجان دولي.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.