
كتب محمد عبدالرحيم:
تتواصل العروض المتميزة لـ«استديو الأربعاء» تحت مظلة «نادي الكويت للسينما»، حيث تم الأربعاء الماضي عرض الفيلم الفرنسي The Artist، الحائز جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، أفضل ممثل، أفضل مخرج، أفضل موسيقى تصويرية، وأفضل تصميم أزياء، الفيلم إنتاج 2011 فرنسي بلجيكي- أميركي، بطولة Jean Dujardin في دور George Valentin وBérénice BEJO بدور Peppy Miller. موسيقى Ludovic Bource وسيناريو وإخراج الفرنسي Michel Hazanavicius.
البحث عن الإيقاع المفقود
يتلو فيلم الفنان آية من آيات السينما الصامتة في لغة سينمائية «نقية»، إن جاز التعبير، مسترشداً بتاريخ عصر زاهٍ اندثر، عصر الفن السينمائي في أوجه، قبل أن تنطق السينما، وما صاحب ذلك من ظروف اجتماعية واقتصادية عصفت بالكثير من المواهب والأحلام، فالتزامن بين الأزمة الاقتصادية وظهور الصوت في السينما، وبالتالي إنتاج نمط وشكل جديدين في الحياة والسينما معاً، لهو أكبر دلالة على مقولات يحاول الفيلم إيصالها عبر بطله الخيالي (جورج فالانتين)، الذي يمثل هنا فئة ليست بالقليلة طواها الزمن، بفضل تكنولوجيا قطعت الصلة تماماً بين روح السينما وألعابها الصبيانية، فهناك عبارة يقولها بطل الفيلم، وتظهر لنا مكتوبة على الشاشة (لم تزل أعيننا هي مرشدنا الوحيد إلى سِحر السينما).. عبارة يرد بها على منتج أفلامه، عند محاولة إقناعه بالاختراع الجديد (الصوت)، الذي سيقلب الصناعة تماماً، ويقول «إذا كان هذا المستقبل.. يمكنك الاحتفاظ به»، العبارة في نفس معناها قالها حقيقة أسطورة السينما شارلي شابلن.. «في أفلامي لن أتحدّث أبداً، لن ألجأ إلى الكلام». فالفيلم يُعد تحية إلى عصر السينما الصامتة، بإيقاع وتفرّد ذلك العصر.
الحكاية
يمثل بطل الفيلم نموذجا لأبطال تلك الفترة، وحالة الصعود والانهيار التي أصابت ممثلي السينما الصامتة، وأزاحتهم عن الشاشة، بخلاف قِلة قليلة استطاعت الصمود عندما تعلمت السينما الكلام بظهور الصوت. البطل الشهير وأفلامه الناجحة، ومن بين معجبيه تأتي فتاة لتحيته بعد نجاح فيلمه، وتطبع قبلة على خدِه ــ نحن في العام 1927، وبالتالي تتصدر هذه الصورة عدة صحف، ويدور التساؤل حول هذه هوية هذه الفتاة المغمورة التي تقبّل البطل الشهير، لتشترك معه بالفعل في أحد أفلامه، رغم اعتراضات منتج الفيلم، ولكن مكانة فالانتين تجعله يرضخ للأمر. لتدور الأرض دورتها، ويتم الوصول إلى السينما الناطقة، ليتراجع دور فالانتين في السينما، متزامناً مع تراجع دوره في الحياة، فيقوم بإنتاج خاص لفيلم صامت، كمحاولة لإثبات وجوده، وأنه لم يزل على قيد الحياة، إلا أن الفيلم يفشل تماماً، فيما تخطو فتاته المغمورة خطواتها السريعة نحو النجاح، وتتحوَّل إلى نجمة من نجمات العصر الجديد، وذلك في وقت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم في ثلاثينات القرن الفائت، لتتوالى مشكلات نجم الصمت، وتتركه زوجته، وتطرده من البيت، ليلجأ إلى منزل قديم، ويبيع ممتلكاته في مزاد علني، وفي لحظة يأس يُشعل النار في أفلامه، ليحترق البيت، ويُنقل إلى المستشفى، فتأتي الفتاة وتجعله يقيم في بيتها، ليدخل حجرة من حجراته ويكتشف أنها هي مَن قامت بشراء ممتلكاته من المزاد، فيثور ويغضب، لكنها تواصل رد الجميل له، وتقاتل مع المنتج كي يمثل معها فلانتين في فيلمها الاستعراضي الجديد، لأنه يُجيد الرقص، حتى يمكنه، ولو في غفوة صمت، أن يتصالح مع الحياة مرّة أخرى، وينطق بكلمة التصالح الوحيدة طوال الفيلم/طوال حياته على الشاشة، إذ يقول «بكل سرور».
تقنيات الفيلم
من السمات المميزة لصناع الفيلم، وعلى رأسهم مخرجه وكاتب السيناريو Michel Hazanavicius أنه حشد الخيال والتكنيك، للتعبير عن تلك الفترة، فقد قام بتصوير منزل بطلته في المنزل نفسه الذي كانت تسكنه بطلة الأفلام الصامتة الشهيرة ماري بيكفورد، وصولاً لاستخدام السرير الخاص بها، إضافة إلى ديكورات ذلك العصر، وأدق تفاصيل إكسسواراته، في حين جعل الإضاءة، رغم نعومتها، شديدة التباين، فاللعب بالأبيض والأسود يحتاج دوماً إلى نوعية خاصة من الإضاءة، ساعد عليها التقنيات الحديثة في أدوات الإضاءة والتصوير، والتي بالطبع لم تكن موجودة وقت الزمن الفعلي للعصر الذي يعبّر عنه الفيلم.
وبما أن الفيلم في مُجمله يحاول أن يدرك إيقاع عالم اختفى، فقد لجأ المخرج إلى حيلة ذكية لإشعار المتفرج بهذا الإيقاع، حتى يعيشه ويصبح مسيطراً على إيقاعه الخاص أثناء عرض الفيلم.
فمن المعروف أن كل ثانية على الشاشة تستغرق 24 كادرا سينمائيا، هذه هي السرعة الطبيعية لعرض الصورة على الشاشة، إلا أن المخرج صوّر الفيلم بسرعة 22 كادرا في الثانية، ليبدو الإيقاع أبطأ قليلاً عما نعتاده في الأفلام، وتصبح الحركة على الشاشة أقرب إلى إيقاع شخصيات ذلك العصر.
لفتة تكنيكية أخرى للإيحاء أكثر بالسينما الصامتة وسِحرها الخاص، حيث قام المخرج باختيار إطار للكادر أشبه بالمربع، وهو الإطار الذي كان مُستخدما وقتها عند تصوير الأفلام، لتبدو نسبة الشاشة (1:1.33)، فيما في وقتنا الحالي تبدو الشاشة مستطيلة، حيث أبعاد الإطار (9:16). وهو ذكاء في استخدام التقنية لجأ إليها المخرج للإيهام بعصر الصمت أو السينما النقية، كما يُفضل البعض تسميتها.
فالتقنية المُفرّغة من المعنى لن تنتج شيئاً له قيمة، والتكنولوجيا وألعابها في الأفلام الأميركية والميزانيات الضخمة التي تشارك بها شركات إنتاج هذه التكنولوجيا، تحاول أن تحوّل الفيلم السينمائي إلى سوق استعراضي لمثل تلك الاختراعات، ولعل أشهر مندوبها في هوليوود هو جيمس كاميرون، وأفلامه عظيمة التقنية ومتواضعة المعنى.
كما يُلاحظ أن فيلم الفنان لم يُعامل كفيلم أجنبي، وإلا كان سيحصل على جائزة الأوسكار الوحيدة التي تمنح لأفضل فيلم أجنبي، لكن اللجنة استندت إلى مشاركة أميركا في الإنتاج، وعاملته كفيلم أميركي، رغم أن معظم صناعه فرنسيون، حتى يستطيع الحصول على جوائز الأوسكار العديدة التي نالها، وهو بالفعل يستحقها عن جدارة، فالفن في النهاية سيفرض نفسه، حتى لو كان فيلما صامتا أُنتَج عام 2011.