ضمن عروض «استديو الأربعاء»: Frida.. الحلم وهواجس قسوة الواقع

لقطة من الفيلم
لقطة من الفيلم

كتب محمد عبدالرحيم:
ضمن أنشطة نادي الكويت للسينما، عرض استديو الأربعاء فيلم Frida، الذي يستعرض مسيرة حياة الفنانة التشكيلية المكسيكية فريدا كاهلو (1907-1954)، التي تعد من أشهر الفنانين التشكيليين في القرن الفائت.

الفيلم من إنتاج عام 2002، ومن بطولة سلمى حايك، التي ترشحت عنه لجائزة الأوسكار، الفريد مولينا في دور دييجو ريفيرا، وإدوارد نورتون، الذي قام بكتابة النسخة النهائية من السيناريو، ومن إخراج جولي تيمور.

تجربة حياة

لم تكن تجربة فريدا تجربة عادية، سواء في الفن أو الحياة، وخاصة عند امتزاج الفن بحياتها، وما لوحاتها إلا ترجمة دقيقة لما صارعته خلال هذه الحياة، على المستوى الشخصي أو السياسي والاجتماعي.

تبدأ الأحداث بمأساة فريدا التي دارت حياتها حولها، وهو حادث الباص الذي جعلها قعيدة، ثم تحرَّكت في صعوبة طوال حياتها، ما أثر في تكوينها النفسي في ما بعد، وخاصة بعد هجرة صديقها الشاب، وهي لم تزل طريحة الفراش.

فريدا التي أصبحت تبحث عن مصدر رزق، بعدما فاقت نفقات علاجها موارد أبيها، تقابلت مع الرسام الأشهر وقتها (دييجو ريفيرا)، لتعرض عليه أعمالها، إلا أن الرجل يقرر في النهاية الارتباط بها، رغم ندوب جسدها وعاهاته، التي شجعته على التعامل معها، بل رأى فيها الكمال الفني أو الأنثوي وفق ما صوّر الفيلم رأي ريفيرا، وهو الأمر الذي أدَّى لاستمرار علاقتهما المعقدة، رغم معرفتها بسلوك ريفيرا المأسوي، وتذكر ذلك في رسالة إليه كتبتها في 23 يوليو 1935.. «هل يجب أن أمتلك فعلا رأس بغل كي لا أفهم على الإطلاق كل ما يجري من حولي: الرسائل وقصص الفساتين ومعلمات اللغة الإنكليزية والغجريات اللواتي يعملن على الجلوس أمامك لرسمهن، وكل النساء اللواتي يظهرن اهتماما (بفن الرسم) واللواتي يحضرن من الخارج. كل هذا تفاصيل مسلية وأنا أعرف أن ما بيني وبينك هو حب بالمعنى العميق للكلمة، وحتى لو عشنا كل هذه المغامرات وكل هذه الخناقات التي يليها دائماً أبواب تقفل وشتائم، فنحن نحب بعضنا، على الرغم من كل شيء، وأظن أنني بالفعل غبية إلى حد ما، لأنني وبعد كل نوبات الغضب التي كنت أمرّ بها، أرى نفسي اليوم أنني ما توقفت عن حبك، وأنني أحبك أكثر من جلدي، وحتى لو أنك لا تحبني بنفس القدر، فإنك على الأقل تحبني قليلاً، أليس كذلك؟»*.

حلم الأمومة المفقود

من أكثر اللوحات قسوة كانت أعمال فريدا عندما خسرت طفلها، وأصبحت ترسم وهي مستلقاة في فراشها، وهي تعد الحالة المعتادة لتنفيذها أعمالها، في هذه المرحلة جاءت اللوحات وكأنها عالم شبحي قاسٍ، بألوانه الحارة، وتفاصيله المُبالغ بها، فقد كانت ترسم ما تشعر به، من دون أن يكون رسماً واقعياً، ومن هنا لجأ الفيلم إلى التلاعب والتناوب بين لوحات فريدا الأصلية، وإعادة تجسيدها على الشاشة، فاللوحات ومراحلها كانت جزءا أساسيا من السرد الفيلمي، طالما أن الحديث يدور عن فنانة تشكيلية بحجم وموهبة فريدا، ويبدو أن الفيلم انتصر للسرد الدرامي من دون التاريخي، فحالة الإجهاض هذه تأتيها وهي في زيارتها إلى أميركا، إلا أن الواقع جاء على خلاف ذلك، ولكن الضرورة والدلالة الفنية تتيح للعمل الفني إعادة بناء الأحداث وفق منطق الفن فقط، فحالة سقوط ريفيرا في أميركا، تشابه حالة إجهاضها وخسارتها جنينها، حتى إن مزاجها النفسي يوحي بذلك، وهو ما تسرده في إحدى رسائلها المؤرخة في العام 1931 قائلة «المجتمع المخملي هنا يضرب لي على الوتر الحساس، وأشعر بأنني غاضبة من كل شيء من حولي، وخاصة هؤلاء الأغنياء، لأنني التقيت هنا بآلاف من الناس الذين يعيشون في بؤس أسود، من دون مأوى أو سقف ومن دون طعام، وهذا ما جعلني أتأثر كثيراً بواقع الحال هنا.. الأميركيون يعيشون كما لو أنهم في مزرعة دجاج كبيرة، منازلهم شبيهة بأفران الخبز وما يتحدثون عنه من رفاهية ليس سوى مجرد أسطورة ووهم».

الواقعية وهواجسها

انتبه صناع الفيلم إلى الفارق الأساسي بين كل من فريدا وريفيرا، ريفيرا صاحب المعتقد الشيوعي، الذي اشتهر برسم الجداريات الضخمة عن جموع العمال والفلاحين، وكبار مفكري الماركسية – وهو ما أفشل رحلته إلى أميركا التي كان معجبا بها – أما فريدا، فكانت ترسم هواجسها نحو الواقع، لذا جاءت مفرداتها في اللوحة واقعية، لكن العلاقة بين مكونات اللوحة غير واقعية بالمرّة، فأخطأ البعض ونسبوها إلى المدرسة السوريالية، وما دفع البعض إلى القول بانتساب فريدا للمدرسة السوريالية، التي لم تحبها، والتي كانت بعيدة عنها كل البعد، هو أن البيان السوريالي الأول تم في المكسيك، وبمشاركة دييجو ريفيرا نفسه، مع أندريه بروتون، مؤسس الحركة السوريالية، وفي وجود ليون تروتسكي، الهارب من ستالين، وصاحب فكرة «الأممية الرابعة».

إلا أن فريدا في مناقشتها لهذه الفكرة بالفيلم، نجد أنها ترفض هؤلاء المجانين السورياليين، فالسوريالية ترف، لم تكن فريدا مؤهلة له. حتى إنها تقول في مذكراتها «لم أرسم أبداً أحلاماً، بل أرسم واقعي الحقيقي فقط»، بل إنها تصفهم بـ «الضائعين في أحلامهم والمتخلّفين في عقولهم». الأمر الآخر الذي يجعلها تتمايز عن دييجو ريفيرا، هو وفق مقولته بأنها هي الفنانة الحقيقية، فهو يرسم ما يراه، فيما هي ترسم ما تشعر به، فلوحاتها ذاتية، أما الرجل، فيميل في لوحاته إلى تجسيد الوعي الجمعي، من دون الذاتي.. وهذا أمر آخر جعلها تقترب من السوريالية، من دون الانتماء إليها كحركة وأسلوب فني، فالذات هي التي تحرّك وتنفعل وتنتج الفن، من دون أي مؤثر خارج عنها، سواء لحساب فكرة أو شخص ما.

دييجو.. فريدا.. تروتسكي

كشف الفيلم عن العلاقة المُربكة بين ليون تروتسكي وفريدا، هذه العلاقة التي لم تستمر طويلاً، قبل أن يتم اغتيال تروتسكي من قِبل عملاء ستالين. هذا العجوز ذو العقل الجبار، لم يجد مأواه العاطفي إلا عند فريدا، المُحملة بتاريخ الألم، إن صح التعبير، الحادث الذي غيَّر مجرى حياتها، فقدها جنينها، وضياع حلمها في الأمومة، وأخيراً، خيانات ريفيرا المزمنة لها، والتي انتهت بخيانته لها مع شقيقتها. فالمرأة التي كانت تهرب من آلام روحها، تقابلت والرجل العجوز الهارب من الموت، وهي علاقة جديرة بالتأمل، وخالقة لحالة فنية مُلفتة، رغم أن الفيلم مرَّ عليها سريعاً، لأن تفاصيل حياة فريدا هي الأهم.

صاحبة القبر المتحرك

تذكر فريدا في مذكراتها وخطاباتها بشأن الرسم قائلة «لم أفكر يوماً بالرسم قبل العام 1926، لكنني في ذلك العام، وجدت نفسي مسمّرة في سريري، بعد تعرضي لحادث طريق، كنت أسأم كثيراً في سريري، وأنا محبوسة في الجبس، وهنا فكرت في أن أقوم بأمر ما، فطلبت الألوان الزيتية التي أمَّنها لي والدي، أما أمي فقد أحضرت لي خشبة خاصة لأضعها فوق رجلي وأرسم، وهكذا بدأت الرسم».

خضعت فريدا إلى 32 عملية vwجراحية، وأجهضت ثلاث مرات، وبترت ساقها اليمنى، حتى أصبح سريرها هو الوحيد القادر على احتواء جسدها، هو قبرها المتحرك، الذي بدا به الفيلم في لقطاته الافتتاحية، وختمه بها عند زيارتها لمعرض أعمالها في بلدها، الحلم الذي طالما تمنته طوال حياتها. وكأنها لوحة حيّة تعيش أمام أعين الجميع، حتى إن أندريه بروتون يصفها بأنها «شريط ملون معقود حول قنبلة».

■ الرسائل ترجمة: كوليت مرشليان

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.