ضمن عروض «استديو الأربعاء»: «كائن لا تُحتمل خِفّته».. بدائل فلسفية للتحايل على السُلطة

لقطة من الفيلم
لقطة من الفيلم

كتب محمد عبدالرحيم:
يواصل نادي الكويت للسينما، من خلال استديو الأربعاء، عروضه المتميزة في مجال الثقافة السينمائية، وخاصة من خلال التنويع بين المدارس السينمائية، والأفكار التي تعالجها هذه الأفلام، فقد عرض في الأسبوع الفائت فيلم «كائن لا تحتمل خِفته» عن الرواية الأشهر للروائي التشيكي ميلان كونديرا، الذي ظل لوقت طويل على قائمة انتظار الفوز بجائزة نوبل، ولكن المفارقة الساخرة أنه استمد نضاله الروائي والسياسي ككاتب ينتقد بكل قسوة صلف وجبروت الاتحاد السوفييتي.. هذا النضال الذي خبا بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه، ولكن رغم ذلك، تظل لأعماله الإبداعية هذا الوهج، لما لها من عمق في تحليل المشاعر الإنسانية، في ظل قسوة وبطش نظام قمعي، وعلى رأس هذه الأعمال تأتي روايته «كائن لا تحتمل خفته»، التي تحوَّلت إلى السينما في فيلم من إخراج فيليب كوفمان، ومن بطولة جولييت بينوش، دانيال دي لوي، ولينا أولين.

جدل الخفة والثقل

هناك بعض المفردات لها ترادفاتها الضرورية، التي تكشف وتوضح بعضها البعض، وهي التي يقوم عليها العمل ككل، سواء الرواية أو الفيلم الذي حاول الاقتراب من عالم الرواية المعقد والمتشابك قدر الإمكان، وبفضل أقصى ما تتيحه المفردات السينمائية.

فالخفة تعني.. الذات، الروح، الحب، الموت، والثقل يعني العالم، الجسد، السلطة والحياة. وبين هذه المفردات وترادفاتها تدور العلاقة بين تريزا (جولييت بينوش) وتوماس (دانيال دي لوي)، فمأساة توماس تكمن في معرفته تماماً وبوعي كل ما يدور حوله من سخف وثقل، وهو معادل البؤس السياسي التشيكي في الستينات، من حيث انسحاق الفرد وضياع ذاته في سبيل شيء وهمي يُطلق عليه الوطن والمجتمع، ما أدَّى به إلى اكتشاف أن روحه تتفتت هي الأخرى، وكان عليه أن يحرر هذا الجسد أولاً، باحثاً عن الذات أو الخفة. الجنس المنعكس في المرآة، ورؤية الجسد من بعيد وهو في أشد حالاته حميمية، بغرض التحرر منه، وفكرة ثقل الجسد تتكرر عدة مرّات في كتابات كونديرا، وخاصة تلك اللحظة التي ينتصر فيها عليه بانفصاله عنه ومشاهدته عن بُعد، لما يمثله هذا الجسد من انتماء للعالم والسلطة والنظام. (يتضح ذلك في روايتيه «كتاب الضحك» و«النسيان، والبطء»)، وعندما يقابل توماس تريزا، مثال الخفة، فإنه لا يصدق، حيث لا يراها إلا من وجهة نظر مشوهة، وفق ما يحيطه من عالم ثقيل، فلا يرى فيها سوى سذاجتها، من دون أن يكتشف هذه الخفة التي يبحث عنها في معنى وحيد وأشكال أخرى (علاقاته الجنسية المتعددة)، هذا الدوران في الفراغ هو ما يمثله الحلم بالخفة بالنسبة لشعب من الشعوب، فكل ما تمنحه قيمة بسبب خفته، إضافة إلى تاريخ طويل من الارتياب، سرعان ما يكشف عن معناه الحقيقي وثقله الذي لا يُطاق (الحل السحري في تجربة الشيوعية الروسية تجاه التشيك)، فرغبات توماس وألعابه الجنسية الجامحة، ما هي إلا محاولات للقبض على الذات والانتقام لها، بديلاً عن الاغتراب المعنوي الذي يعانيه داخل بلاده أولاً، ثم الاغتراب المادي بعد الاجتياح الروسي لبلاده في “ربيع براغ”، وهروبه إلى سويسرا.

المعادل السينمائي

جاءت بعض المشاهد التي نجحت في التعبير عن روح ومغزى رواية كونديرا، المليئة بالتحليل لأفعال ومبررات تصرفات الشخصيات، نظراً لطريقة السرد الروائي، حيث كان الكاتب عليما بدقائق وخبايا نفسيات شخصياته بصورة شبه مطلقة! ومن هذه المشاهد..

ــ حلم تريزا المزعج وهي في حمام السباحة ورؤيتها للنساء العاريات، وتوماس بينهن، يقودهن في رقصهن الإيقاعي المرعب.

ــ ممارسة الجنس في المرآة، والاستمتاع بمشاهدة انفصال الروح عن ثقل الجسد، مع ملاحظة أن حالة المرآة هذه لا تتحقق إلا مع سابينا فقط، فتريزا لا تحتاج إلى مرآة، لأنها ذات متحررة من الأصل.
ــ جسد سابينا هو ملاذ تريزا أيضاً، فحينما بدأت الأخيرة في التقاط الصور لسابينا وهي عارية، حتى تجد عملاً كمصوّرة فوتوغرافيا، يتضح مدى الشعور بالمهانة والاغتراب عن طريق استغلال هذا الجسد، وخاصة مع دموع تريزا التي بدأت تسيل وهي تلتقط الصور لجسد سابينا، هذه الدموع التي تواءمت ووجه سابينا الذي لم يعد يخجل من أمر واقع، بل لا يجد مفرا سوى مشاهدة عار الجسد المُنتهَك بعيداً عن وطنه، إضافة إلى التضاد الصارخ لوجه سابينا وهو يطالع عدسة كاميرا تريزا، عنه وهو يطالع نفسه في مرآة توماس.

ــ المفارقة بين موسيقى الرقص المرحة في الملهى، والنشيد الوطني الجاف، الذي تم عزفه بإيعاز من أحد رجال السلطة، لتخلو القاعة له ورفاقه وحدهم، شيء أشبه بخنازير أورويل في مزرعة الحيوان.

ــ ممارسة توماس الجنس مع صاحبة المنزل الذي يعمل به في تنظيف الزجاج، بعد تركه مهنة الطب كعقاب له من السلطات الرسمية، ولكن صاحبة المنزل تجمعها وهي طفلة صورة مع ستالين تزيّن الحجرة، كما أنها زوجة أحد رموز الحزب الحاكم الآن، وهو آخر لقاء جنسي لتوماس بعيداً عن تريزا.

ــ موت «كارنين» بيد توماس، الذي بدأ يدخل في عالم تريزا تماماً، كارنين (الجرو الصغيرة في بداية زواجهما) التي لم يحتمل جسدها، فأصيبت بالسرطان، كنتيجة لهذه الحياة الثقيلة، وهو أيضاً إيذاناً بفناء كل منهما وتخليدهما كروح واحدة في عالم ضبابي لا يراه الآخرون، المنجذبون لهذه الأرض، وعالم السخف والثقل، عالم أموات الروح، كروح سابينا البعيدة عنهما.

ارتباط توماس بتريزا

يوجد ما بين الاثنين ارتباط رهيف وحاد في الوقت نفسه، تماماً كثنائية الحياة والموت، فكل شيء يبدو مُعرضاً للفناء هو أكثر الأشياء قدرة على البقاء، وهو في حالة تريزا وتوماس الشيء الخفي الذي تحقق في النهاية بصورة مطلقة الخفة، وهو «الحب»، ليكون «الموت»، وهو البقاء الأبدي في لحظة الفناء هذه!

مشكلة سابينا

سابينا هي الشخصية الأقرب إلى الواقعية، فهي معلقة دوماً ما بين الخفة والثقل، ما بين الروح والجسد، وهي تعبّر عن جيل كامل ظل على هذه الحال في ظِل مجتمع يبحث عن هويته بصورة مزمنة، سابينا هي الوحيدة الملاذ الصادق لتريزا وتوماس، حيث تحول جسدها إليهما كجسد المسيح. سابينا التي حبست روحها داخل جسدها، سواء في وطنها المزعوم أو في الخارج (سابينا هي الوحيدة التي لم تعد إلى وطنها، بل امتدت غربتها حتى نهاية العالم/الولايات المتحدة، حتى حينما جاءتها الفرصة في حب عن طريق المصادفة، هربت حفاظاً على ذاتها، وخوفاً من تحول الحب إلى قيد ثقيل). سابينا هي منتصف الطريق بين تريزا وتوماس، والوجه المقابل لهما، وجه التاريخ في حقيقته وقسوته. فحتمية موت توماس وتريزا تؤكده حتمية استقبال سابينا لنبأ موتهما هذا، وبذلك يصبح تحقق الخفة في لحظة الحب المطلق بين تريزا وتوماس والمنتهية بالموت، هي نفسها لحظة انتفاء الثقل الذي تشعر به سابينا في غربتها الدائمة، وقد انتهى وجودها وتاريخها في بلدها بموت تريزا وتوماس.

وإذا كانت تريزا تمثل الحلم، وتوماس يمثل الحالم، فإن سابينا تمثل الواقع، واقع ذلك الجيل الذي عاش ربيع براغ 68، فدفع الثمن اغتراباً، متذكراً لحظات تمتاز بخفتها.. الثورة، التحقق والتوحد، ويعاني ويعايش الثقل/ما هو كائن بالفعل، كحالة كونديرا نفسه الذي اختار باريس منفى اختيارياً، أصبح يكتب بلغته الآن.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.