
كتب محمد عبدالرحيم:
ضمن أنشطة عروض «استديو الأربعاء» بنادي الكويت للسينما، عُرض الأربعاء الماضي الفيلم التليفزيوني Hitler The Rise of an Evil، «هتلر صعود الشر».. والفيلم من إنتاج عام 2003، وترشح للعديد من جوائز إيمي، المُعادلة للأوسكار في مجال الدراما التلفزيونية، ويبدو الاختيار الموفق لعرض مثل هذا الفيلم، وفي هذا التوقيت الذي تمر به ما يسمى ببلاد الربيع العربي، من ثورات حاول الجميع إجهاضها، وتبريرات لإعادة الأنظمة القمعية مرّة أخرى، وإن كانت قد اختفت عن المشهد والتاريخ لحظات معدودة. الفيلم يستعرض كيفية صعود نجم هتلر، والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لولاها ما كان سيستطيع الاستحواذ على السلطة، وتصدير نتائج فكره المريض إلى العالم.
الفيلم إنتاج بريطاني، من إخراج كريستيان دوجواي.
طفولة معقدة ومراهقة محبطة
يستعرض الفيلم في بداياته طفولة هتلر المضطربة، وحياته الشاقة كطفل، وعلاقاته بمن حوله من نساء، وخاصة والدته، المغلوبة على أمرها في ظل زوج قاسٍ، نالها وطفلها منه أشد أنواع القسوة والمعاناة.. وهو تفسير سيكولوجي لسلوكه المضطرب في ما بعد.
أما الإحباط الآخر الذي نال منه، فهو الفشل في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، وقد كان يهوى الرسم، ويريد دراسته أكاديمياً، ومن ثم احترافه، لكنه فشل، هذا الأمر الذي جعله يأخذ موقفاً عدائياً، ويجعل منه أكثر قسوة وحدة في مواجهة ما سيحدث بعد ذلك. إنه يريد توجيه أكبر صفعة للعالم، كل الذين قللوا من شأنه ورأوا فيه مجرد مسخ مهزوز أو عديم الشخصية، وهو ما جعله يأتي بتصرفات أكثر تهوّرا، وإن كانت تبدو في غاية الشجاعة، وهذا ما حدث عند التحاقه بالجيش في فترة الحرب العالمية الأولى.
القومية والصراع الحزبي
كحالة كل أمة خارجة من الحرب، وخاصة وهي تعاني الهزيمة، يكون الاضطراب السياسي والاجتماعي هو السمة الغالبة، وهنا تبدأ النعرات القومية، كهدف أو كملاذ أخير للبقاء، وقد لعب هتلر على هذا الوتر، وجعل كل هدفه القضاء على خصميه اللدودين، ألا وهما الشيوعيون واليهود.
وبما أن موهبته تجلَّت في الخطابة، وقد كان عصر الخطابة، وكانت كلماته تتسرَّب إلى وجدان شعب هش مهزوم قبل عقله، فقد لاقى الكثير من المؤيدين من بين فئات الشعب الألماني، من دون المثقفين منهم، أو الذين على الأقل يعرفون معنى ومدى خطورة اللعب على وتر القومية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإبادة عرق ما أو أصحاب ديانة ما. ويلاحظ أن تكرار نموذج هتلر لم تنته بنهايته، فالكثير ممن أطلقوا على أنفسهم لقب الزعماء لعبوا أيضاً على هذا الوتر في نفوس شعوبهم المُنهكة، والحالمة بعالم أفضل.
رؤوس الأموال
لم يكن هتلر سيتمكن من مخططه من دون أن يساعده أصحاب رؤوس الأموال في تمويل حزبه وحملاته الانتخابية، لتحقيق أقصى نفع مادي من سياسات هذا الرجل. وقد عرف كيفية استغلالهم إلى أقصى حد، رغم أنهم أرادوا استغلاله في البداية كواجهة سياسية لمشروعهم، بداية من الدعاية والشعار الحزبي الذي أصبح يتصدر جدران برلين، وفاق شعارات الحزب الشيوعي وملصقاته التي تحمل وجه لينين.
وبتحالفات موزونة وصعوبات، استطاع هتلر بقوة عقيدته ــ أياً كانت هذه العقيدة ــ أن ينتصر ويخرج من تجربة سجنه التي امتدت 5 سنوات، رواها في مؤلفه المعروف بعنوان «كفاحي»، الذي تم بعد ذلك تنقيحه وإضافات مستمرة عليه، حتى مرحلة وصول هتلر إلى سدة الحكم، وتصبح السلطة بالكامل ملك يده، رئاسة الدولة والمستشارية. وفي جو الخوف من أوضاع اقتصادية واجتماعية متردية، قام بما يشبه الأحكام العرفية من تقييد الحريات، ووضع عقوبات غير معهودة من قبل. الخوف هو الذي سمح له بذلك، ليصبح الحزب هو العالم، وما سواه هم أعداء العالم والتقدم والتحرر.
الرجل بالفعل قدَّم الكثير للاقتصاد الألماني، وقفز به مسافات إلى الأمام، كما تعهد في برنامجه الحزبي، وحوّل ألمانيا في عدة سنوات إلى دولة صناعية كبرى. إلا أن نظرة الاحتقار التي كان يرى بها العالم وثأره من الجميع هي ما أشعلت الحرب.
ينتهي الفيلم عند استتباب الأمر لهتلر، وتلويحه بالحرب، ووعوده للشعب الألماني بمستقبل أفضل وغد مشرق.
هنا تتوقف رسالة الفيلم، فأجواء الحرب ونتائجها معروفة للجميع، فالفيلم أراد التركيز على الجو العام الذي يشجع على قيام الديكتاتوريات، وصعود الشر كما جاء بعنوانه الفرعي.
الشكل النمطي
رغم مميزات الفيلم من سرد تفاصيل عن حياة هتلر، وصياغة ردود أفعاله العامة والشخصية، إضافة إلى الأداء الجيد إلى حد ما لبطل الفيلم، روبرت كارلايل، والذي كشف عن توترات الشخصية وعصبيتها وحدتها المفرطة، إلا أن الفيلم لم يستطع الهرب من الصورة النمطية لهتلر، والتي تكررت في العديد من الأفلام والأعمال الدرامية، وهي سمة تناولتها هوليوود وتابعوها في تصوير هتلر ونتائج أفعاله، لتنمية الشعور بعقدة الذنب لدى الشعب الألماني، وخاصة في ما يتعلق بالمحرقة ومعاداة السامية، ولعل أبرز هذه الفئة من الأفلام هو فيلم «عازف البيانو» لستيفن سبيلبيرغ، وفيلمه الآخر ذائع الصيت الذي يلعب على النغمة نفسها «قائمة شندلر»، بخلاف النسخ المتكررة من الأعمال التي تناولت هتلر والنازية والموقف من اليهود، وهي أعمال في مجملها تحاول تصدير وجهة نظر المعسكر الآخر، وعلى رأسه أميركا وبريطانيا، والفيلم الذي نعرض له الآن ينتمي إلى هذه الفئة، رغم محاولاته أن ينجو من المباشرة، للتركيز أكثر على شخصية هتلر نفسها، إلا أنه غرق في الصورة النمطية لهذه الشخصية، من خلال ما كُتب عنها من انطباعات المعسكر المناوئ، حتى في علاقته بابنة أخته، التي انتحرت، بسبب رقابته الصارمة لها، أو علاقته الغريبة بها وفق ما يُشاع. وهو ما أضعف من درامية الشخصية، وأبعادها، بأن جعلها أكثر سطحية، فلا يوجد شر مطلق ولا خير مطلق في الشخصية الإنسانية، حتى ولو كان اسم صاحبها «هتلر».
أنسنة هتلر
يبدو أن «كلاشيه» هتلر لم يعد يجدي، كما أن تابو أفعاله أصبح من الممكن إعادة النظر به، فجاءت بعض الأعمال لتحاول الاقتراب من الرجل أكثر، كشخصية درامية تحمل جميع التناقضات، والتي من بينها الحِس الإنساني. ومن أشهر هذه الأعمال وأجملها بالفعل فيلم Downfall/السقوط، الذي تعرض للأيام العشرة الأخيرة في حياة هتلر قبل نهايته، وهو من إنتاج 2004، وترشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. إضافة إلى أعمال أخرى استعرضت كوارث هتلر، في صورة غير مباشرة، أروعها فيلم Life Is Beautiful/ الحياة جميلة للإيطالي روبرتو بينيني 1997، والحائز جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
رؤية فيلليني المُحيّرة
ويبدو التساؤل حول ضرورة وجود ديكتاتور في لحظة تاريخية ما، حتى تتم إعادة وصياغة الحياة، حتى لا تنتهي، وحتى يجد الجموع شيئاً يلتقون حوله، ويؤمنون بمشروعه، في مقابل التنازل عن بعض – ستصبح كل – من حرياتهم، حتى يأمنوا الخوف من المستقبل مطروحا بقوة، والإجابة عليه التي حيّرت الكثيرين أجاب عليها المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني في فيلمه القصير «بروفة أوركسترا» 1978، والذي وجد فيه أن الحل يكمن في الفوضى الأخلاقية والاجتماعية التي أصابت أوروبا العجوز، فبعد انهيار أجزاء من القاعة المُعدة للعزف، يقوم المايسترو بعدما ترك للفرقة وقتاً كافياً لضبط الآلات والاستعداد للعزف، ولم يجد بعد ذلك إلا الصراخ بحدة في وجوههم، وباللغة الألمانية
«اصمتوا لكي تفهموا».