حاول السيد حسن نصرالله في كلمته الأخيرة إعادة التذكير بمبررات دعم حزب الله لنظام الأسد في مجازره ضد الشعب السوري، واستخدم منطقاً جديداً لاستثارة المشاعر، فذكّر بالخطر الإسرائيلي المتربص دائماً بلبنان، والذي من الممكن أن يستغل الظرف الراهن للاعتداء عليه، وشدد على محورية القضية الفلسطينية والمقدسات، ونبّه لما يُحاك بشأنها بتنسيق صهيوني – أميركي، وممارسة ضغوط على الفلسطينيين، وطرح حلول مفصلة لصالح إسرائيل في هذا الوقت، مستغلين انشغال كل دولة عربية بمشاكلها، وتراجع الاهتمام بهذه القضية، كما استعرض تاريخ المقاومة، وما قامت به من بطولات أدَّت إلى منع إسرائيل من احتلال لبنان.. وأخيراً تمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه الجيش اللبناني القوة الوحيدة التي تدافع عن لبنان، ليرتاح هو ومقاتلوه، ثم توجَّه بالشكر مقدماً لكل من سيعمل على تزويد الجيش اللبناني بالسلاح، ليصل إلى المستوى المطلوب من الجهوزية! (لا أعتقد بأنه يقصد المملكة العربية السعودية التي تعهدت بدفع مبلغ ثلاثة مليارات دولار قيمة ما وعدت به فرنسا للحكومة اللبنانية، من أجل إعادة تأهيل وتطوير الجيش اللبناني، ولكنها أوقفت المشروع، بسبب مشاكلها المالية).
ولم يفت نصرالله التنويه إلى ما تقوم به ما أسماها بالمجموعات التكفيرية في سوريا، وما تمثله من خطر على لبنان، بكل فئاته، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو دروزاً، وقال إنها «مجموعات مخترقة من قِبل إسرائيل والولايات المتحدة»، ثم أضاف أن هذه المجموعات مموّلة من السعودية التي اكتشفت بعد حين أن بعض المقاتلين من السعوديين سيعودون يوماً ما إلى بلدهم، بعد أن اكتسبوا خبرة قتالية، ما سيشكل خطراً يهدد السلطة في المملكة، ودرءاً لهذا الخطر قامت بسنّ القوانين، وهيأت العقوبات لكل من يدعم أو يشارك في القتال في سوريا من السعوديين، وكذلك فعلت بعض الدول الأوروبية مع مواطنيها «المجاهدين». (ولم يفسر السيد لماذا تقاتل «داعش» الجيش الحر).
واستنكر نصرالله القول بأن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان هي ردات فعل على هجمات حزب الله ضد القوات الإسرائيلية .
كما رفض أن يكون سبب التفجيرات بالسيارات المفخخة التي أصابت العديد من المناطق اللبنانية، وخاصة بيروت الغربية، معقل حزب الله، هو نتيجة لتدخل الحزب طرفاً في الحرب السورية.
كما استنكر ما وصفه بخنوع الدولة اللبنانية وتخاذلها في الدفاع عن اللبنانيين من سكان منطقة القصير الحدودية ممن تم الاعتداء على ممتلكاتهم واغتصاب نسائهم من قِبل التكفيريين، كما ذكر.
مقاومة إسرائيل
عند استعراض بعض ما جاء في كلام السيد نصرالله، يجب أن نتذكر، تاريخياً، أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 82، أحببنا ذلك أم كرهنا، قد حقق هدفه الأساس، وهو إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان.. أما استمرار احتلال إسرائيل لجنوب لبنان، فقد استنهض روح المقاومة لدى اللبنانيين، دعما للمجموعات المقاومة، والتي كانت موجودة فعليا قبل هذا التاريخ، وشارك فيها أطياف من المقاومين من تنظيمات لبنانية متعددة، وبعد تشكيل حزب الله ودخوله في تنافس تصادمي مع حركة أمل، تم ترتيب الوضع في الجنوب، لمنع الاقتتال في ما بينهما، بتدخل إيراني، ومع مرور الوقت سيطر حزب الله على مناطق المواجهة مع إسرائيل، ومنع وصول أي تنظيمات أخرى إليها، بل إنه منع حتى الجيش اللبناني من الاقتراب من بعض المناطق! واستمرت المقاومة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي حتى اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000.
وأدَّى هذا الانتصار إلى تدفق روح الأمل لدى الشعوب العربية كافة، بإمكانية دحر إسرائيل والانتصار عليها، ولقي حزب الله – آنذاك- تعاطفا منقطع النظير في كل البلدان العربية.
أما حرب 2006، التي كانت حربا شرسة وانتقامية، فقد تعمَّدت إسرائيل أن تدمر من خلالها البنية التحتية والكثير من المرافق العامة في لبنان، مثل الكهرباء وأجزاء كثيرة من مناطق الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، وهذه الحرب كانت قرارا متهورا وغير مدروس من الحزب، حيث اعترف السيد حسن نصرالله شخصيا في تصريحه الشهير للتلفزيون اللبناني وصحيفة الحياة بأن «قيادة الحزب لم تتوقع، ولو واحداً في المائة، أن تؤدي العملية إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم، لأنه وبتاريخ الحروب هذا لم يحصل، لو علمنا أن عملية الأسر ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعاً».
وعلى الرغم من خسائر الجيش الإسرائيلي الكبيرة، فإن لبنان تكبَّد خسائر فادحة أيضا، فقد تكبَّد بالإضافة إلى الأرواح خسائر مادية قدَّرتها هيئة الإغاثة اللبنانية بما يقرب من 10 مليارات دولار، وتم تدمير أكثر من 600 كيلو متر من الطرقات و80 جسرا، و15 ألف منزل، ومحطات توليد كهرباء وضخ مياه الصرف الصحي، بالإضافة إلى ما تسببه بقايا القذائف العنقودية التي لم تنفجر والألغام المنتشرة في الحقول، وأدَّت إلى وقوع ضحايا حتى هذا اليوم.
أما بالنسبة لحزب الله، فقد خسر ميزة المواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.. فبموجب قرار مجلس الأمن رقم 1701 تم تحديد منطقة عازلة على الحدود الدولية تمتد إلى نهر الليطاني بعرض يتراوح ما بين عشرين وثلاثين كيلومترا تنتشر فيها قوات مراقبة دولية تقدَّر بأكثر من أحد عشر ألف جندي، تراقب الاختراقات ما بين الطرفين، بالإضافة إلى قوات الجيش اللبناني التي لم يكن يسمح لها من قبل بالاقتراب من منطقة الحدود.. وبعد كل هذا أطلق حزب الله على هذه النتيجة اسم «النصر الإلهي»!
تغير سلوك الحزب
هذا بعض ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي، ودور حزب الله في مقاومته.. أما بعد ذلك، فقد تغيَّر سلوك الحزب، فالتفت إلى الداخل اللبناني، ليفرض هيمنته على الوضع، فبدأ بالتعامل الخشن مع باقي الأحزاب، ودخل في مناوشات وصلت إلى حد استخدام السلاح، ومارس سياسة التخوين وإطلاق صفة العمالة لإسرائيل وأميركا لكل من عارض مغامرته عام 2006 أو دعا لأن يكون السلاح وقرار الحرب فقط بيد الدولة اللبنانية.
وبعيداً عن الاتهامات والمزاعم في ضلوع الحزب في عمليات الاغتيالات السياسية التي طالت العديد من معارضي النفوذ السوري في لبنان، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، إلا أن مشاركة حزب الله في القتال دفاعا عن النظام السوري، على الرغم مما أطلقه من مبررات، ضربت شعبيته ومصداقيته في الصميم في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي.
فما طالب به الشعب السوري سلميا هو نفسه ما طالب به شعب البحرين والشعب المصري والتونسي والليبي، فلماذا النظرة تختلف هنا؟ الجميع يطالب بالحرية وكرامة العيش.
نعم، هناك إرهابيون دخلوا سوريا، سمهم ما شئت، ولكن بالتأكيد ليس لهم علاقة بالانتفاضة السلمية للشعب السوري الذي لم يطلق خلالها رصاصة واحدة على مدى ثمانية أشهر، على الرغم من بطش قوات الأسد وشبيحته، واستخدامهم أبشع وسائل القمع والتنكيل بالمدنيين العزل.
إنهم مجموعات مشبوهة، ليسوا دعاة حرية ولا كرامة ولا ديمقراطية، ومارسوا أعمالا وحشية تم تصويرها عن قصد، ووزعت وحملت على «يوتيوب»، لتخويف وتنفير الناس من الثورة السورية.. وما هو ملفت للانتباه أن براميل المتفجرات التي تلقيها طائرات النظام ليل نهار لا تصيب هؤلاء «التكفيريين الإرهابيين»، وإنما تضل الهدف، فتصيب السكان العزل، الذين تجاوز عدد قتلاهم 140 ألفاً، وفقد منهم ما يقارب هذا العدد، وتشرد حوالي 9 ملايين سوري عن منازلهم التي تحوَّلت إلى ركام.
إن من يشارك في قتل الشعب السوري الذي دعم المقاومة وآوي مشردي جنوب لبنان خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان، وفتح قلبه قبل بيته لهم لا يستحق أن يصنف مع الشهداء، وإنما مع السفاحين القتلة.
تغيرات جارفة
إن ما أصاب لبنان من تفجيرات عمل إرهابي مُدان، ولكنه للأسف لن يتوقف، ولا يظن السيد بأنه يستطيع أن يرمي الناس بالنار ويقذفونه بالزهور.
تمنيت شخصيا لو أن السيد حسن نصرالله، لما له من مكانة وقيمة نضالية ومعنوية ودالة على القيادة السورية، لو أنه سلك مسلكا آخر، ما ضره لو تدخل منذ البداية كوسيط لحقن الدماء وحاول إقناع هذا النظام بالاستجابة لمطالب الشعب السوري المستحقة بالعيش الكريم والحرية؟ أما كان ذلك أكرم له وللمقاومة اللبنانية التي كنا نفخر بها يوما ما؟ ولكانت استجابة النظام سببا كفى سوريا وشعبها شر ما هي فيه الآن؟
لا أعلم ما سيحدث في المستقبل القريب، ولكن الأكيد أن سوريا لن تكون التي يعرفها السيد ولا المقاومة اللبنانية التي يتمناها.
إن التغيرات التي تحدث هذه الأيام سريعة وقوية وجارفة، فستتكون تحالفات جديدة، وستختل موازين قوى، وسيظهرهذا إذا تم إنجاز ملف إيران النووي، وهو أمر ليس بالبعيد، وإيران بالذات حريصة ومحتاجة إلى إغلاقه أكثر من الغرب.
خاف الله يا نصرالله!