
بيروت ـ هازار يتيم:
أكد رئيس المركز الثقافي للحوار والدراسات وأستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، د.عبدالغني عماد، أن التحدي الأبرز الذي يواجه الإسلاميين اليوم يتمحور حول مراجعة شعار الدولة الإسلامية، الذي أصبح يحتاج إلى ضبط على مستوى المفهوم والمضمون، لافتاً إلى أن الدولة العربية الرسمية الحديثة التي قامت إثر الاحتلال الأجنبي، احتكمت إلى منطق سلطوي استبدادي، وكان مصير هذه التجربة أن تؤول إلى فشلٍ ذريع مدمّر للحياة السياسية والاجتماعية.
وأشار مؤلف كتاب «الإسلاميون بين الثورة والدولة.. إشكالية إنتاج النموذج وبناء الخطاب»، الصادر أخيراً عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، في حوار مع «الطليعة» إلى أنه لا يمكن تصور ديمقراطية من دون الإيمان بالمساواة التامة بين المواطنين كافة بشكل صريح ومن دون مواربة، والإيمان بالفرد كقيمة مستقلة، موضحاً أن التعليم في بلادنا لا يزال في غالبه يقوم على التلقين، وليس على الفهم والحوار بين الأفكار، أي أنه يقوم بصياغة العقل الاتباعي لا العقل النقدي، وهذا ما تقوم بترسيخه بصورة مباشرة الأنظمة المستبدة، لأن العقل الاتباعي يتكيَّف مع مفاهيم الطاعة والانقياد، أما العقل النقدي، فمتمرد ومتسائل بطبعه.
قضايا عدة تناولها الحوار الذي جاء على النحو الآتي:
● ما التحدي الأكبر الذي يواجه الإسلاميين في الوقت الحالي؟
ـ في إيجاز سريع، أعتقد بأن التحدي الأبرز اليوم يتمحور حول مراجعة شعار الدولة الإسلامية، الذي أصبح يحتاج إلى ضبط على مستوى المفهوم والمضمون، وفي استعراضٍ لما قام به رموز النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نجد أنهم لم يطرحوا في نقاشاتهم حول أسباب تخلف المسلمين قضية إقامة «الدولة الإسلامية»، فقد كان جلّ همهم إصلاح الواقع السياسي، والسعي إلى تحديث الجيش والإدارة والتعليم وتجديد الاجتهاد. وهكذا، راحوا يعملون على جبهتين: جبهة الإصلاح السياسي، وجبهة الإصلاح الديني.
والدولة العربية الرسمية الحديثة، التي قامت إثر الاحتلال الأجنبي، احتكمت إلى منطق سلطوي استبدادي، وكان مصير هذه التجربة أن تؤول إلى فشلٍ ذريع مدمّر للحياة السياسية والاجتماعية، وقد استفادت الحركات الإسلامية الصحوية من هذا الفشل، فقد كان للمشروع السياسي الإسلامي المعاصر أن يتقدّم بإزاء تراجع الخطاب القومي العربي.
إخفاق مشروع الدولة الحديثة
● ما الأسباب أو العوامل التي تقف وراء إخفاق مشروع «الدولة الحديثة» في مجتمعاتنا العربية؟
ـ أرى أن تشكل الدولة لدينا شهد منذ بدايتهِ انحباساً معرفياً في حدود «النموذج المثالي» المستمدّ من المدوّنة التاريخية الفقهية والمتمثل بتجربة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من دون أن يتم تطوير هذا النموذج وتحديثه. وكان من جراء ذلك أن هُمّشت فكرة الدولة في التنظير السياسي الإسلامي، السني والشيعي، على حد سواء، لمصلحة مفهوم الأمة، وبما يجعل الشرعية الكاملة لأي سلطة حاكمة في المخيلة الإسلامية وكذا القومية لا تقع داخل حدود الواقعية القائمة، بل تمتد إلى النصاب الشرعي الكامل للأمة.
ولقد أدَّى ذلك إلى عدم الاهتمام ببناء نظرية الدولة والمواطنة والمؤسسات وفصل السلطات وتداول السلطة والحريات. ولم يتم التعامل مع الدولة القائمة، إلا باعتبارها وليداً لقيطاً ومؤقتاً، أو كياناً «غصبياً»، وفق فقهاء الشيعة.. لذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في الإجابة عن سؤال الدولة والمواطنة.
إصلاح النظام السياسي
● بعد وصول الإسلاميين إلى الحُكم، هل يمكن إصلاح النظام السياسي العربي بما يسمح بإدماج «الديمقراطية» في صميم بنيته، التي أصبحت بحكم التداعيات في عهدة الحركات الإسلامية؟
ـ الصيغ المعاصرة اليوم للمشروع الإسلامي، ليس بينها أي نموذج عربي مُعاصر يمكن القول بأنه تبلور في إطار صيغةٍ ما، إذ إن التجربة الإخوانية الأخيرة في مصر أُجهضت قبل اكتمالها، بل في المهد. والسبب يعود إلى الإرباك الذي يطبع التشييد العملاني لنموذجها، على الرغم من أنها في السنوات الأخيرة قدمت خطاباً اعتمد منهج التأصيل لمسألة الشورى والديمقراطية والمواطنة والتعددية والمشاركة وسوى ذلك من قضايا.
وبالانتقال إلى الصيغة الجهادية الطالبانية، فهي تتقاطع مع مفهوم الدولة، واضعة أولوية الجهاد على رأس مهامها لإقامة «حكم الله».
أما عن التجربتين الكبريين، الصيغة الإيرانية والصيغة التركية، فأنا أعتقد من خلال دراستي المقارنة في كتابي الأخير للتجربتين بأن التجربة الإيرانية تقطع مع «الأمة» وولايتها لتؤسس نظرتها إلى الدولة على منظومة «ولاية الفقيه العامة»، في حين أن نظيرتها التركية هي أكثر براغماتية في مقاربتها مسألة الدولة والمواطنة والحريات والعلاقات الدولية، مُقدّمةً تجربتها على خلفية إنجازات تنموية ونجاحات اقتصادية وحداثية.
مع ذلك يمكن القول بأن الباحثين الإسلاميين قدموا نظرياً خطاباً تركيبياً بين الدعوة والدولة، من دون البحث المعمق في إشكالياته في المستويين النظري والتطبيقي، فالإنصاف يقتضي القول بأن طبيعة الأنظمة التسلطية العربية لم تمنح الإسلاميين مجالاً لاختبار فرضية الدمج والاعتدال مقابل الإقصاء والتشدّد.. وهكذا، وصل الإسلاميون إلى السلطة من دون أن يمتلكوا العُدّة النظرية اللازمة في مسألة الدولة، وقد كان لخطابهم التركيبي أن يتمركز على محوري الدعوة والدولة، ما أرسى نوعاً من الالتباس بين دولتهم الإسلامية والدولة «الديمقراطية» أو المدنية التي أعلنوا عنها في برامجهم السياسية.
● لماذا عجزت الحركات الاسلامية عن التجديد في الاجتهاد والخطاب السياسي المعاصر؟
ـ وصول الإسلاميين إلى السلطة من دون تملكهم العدة النظرية اللازمة في مسألة الدولة، وتمركز خطابهم التركيبي بين محوري الدعوة والدولة، أرسى نوعاً من الالتباس بين دولتهم «الإسلامية» والدولة «الديمقراطية»، على الرغم من الجهود المهمة التي بذلت لسد الفجوات من قبل هذه الحركات وبعض مفكريها، إلا أن الالتباس النظري حول مساحات معينة تحوّل إلى تناقض في الممارسة العملية أدخلهم في صراعات متعددة مع قوى اجتماعية ومدنية متنوعة.
عملياً، لا يكفي القول بعدم التناقض بين الإسلام والديمقراطية لحل الإشكال النظري، كما لا ينفع القول بأن الديمقراطية مجرَّد آليات تحقق الانتقال السلمي للسلطة، ذلك أن الفصل بين الآلية والمنظومة عدا عن أنه فصل اعتباطي هو غير عملي، فالمنظومة هنا تعني المضمون، والذي يعني «القيم»، من دونها يفقد النظام الديمقراطي قوامه وبنيانه، هذا لا يعني التسليم و«الاقتباس» الكامل لمقومات النظام الرأسمالي الليبرالي، بل يعني تجاوز التفكير الوظيفي أو الأداتي للديمقراطية، واختزالها بإجراءات تقنية وآلية انتخابية موسمية، من دون استلهام أو فهم المنظومة المنتجة لهذه الأدوات والتقنيات والدور المناط بها كقيم وأخلاق وثقافة، والتفاعل معها إيجاباً.
إن الموقف الانتقائي والتجزيئي في هذا المجال يفرّغ جزءاً كبيراً من الحمولة الديمقراطية وأصالتها لدى الإسلاميين، ويضفي عليها الكثير من الشكلانية، ما يفرض المزيد من الجهود الفكرية والاجتهادية والعملية في هذا المجال، لكي تتحوَّل المنتجات الفكرية إلى ثقافة وسلوك في الممارسة والعلاقة مع الآخر.
الإسلاميون.. والمواطنة
● وماذا عن إشكالية الإسلاميين والمواطنة؟
ـ لا يمكن تصور ديمقراطية من دون الإيمان بالمساواة التامة بين المواطنين كافة بشكل صريح ومن دون مواربة، والإيمان بالفرد كقيمة مستقلة، من دون أن يعني ذلك السقوط في «الفردانية» أو إسقاط قيمة المجموعة، إنما بما يعنيه من تعميق لقيمة الحريات العامة والخاصة الأساسية وحقوق الإنسان التي تشمل إلغاء كل الإجراءات أو المفاهيم والتشريعات التي تقصي المواطنين غير المسلمين أو المرأة أو تحد من حقوقهم المدنية أو السياسية أو تقوم بتهميشهم.
والأهم من كل ذلك ما يتعلق بالجانبين الدستوري والقانوني، حيث منطقة الاشتباك الملتهبة، وتمثل فيها الشريعة الإسلامية مفتاح الاختلاف وكلمة السر، إذ يبدو الخطاب السلفي المسيّس أكثر تمسكاً بها ورفضاً لأي مساس يتعلق بخصوصيتها ومرجعيتها التشريعية، حيث لا يزال يتحفظ على مصطلحات كالدولة المدنية، والديمقراطية وغيرها.
● هل يمكن توطين الديمقراطية في منظومة الفكر السياسي الاسلامي، أم أنها مسألة معقدة؟
ـ لم يحدث تطور مهم في هذا المجال على مستوى الأدب النظري للإسلاميين، فقد بقي إنتاجهم يدور حول «النموذج المثالي» وما أنتجته المنظومة التراثية المرجعية في مسألة الدولة، دونما تطوير دلالي يذكر لجملة المفاهيم السياسية الحادثة والمتغيرة في عالم شديد التعقيد، كعالمنا المعاصر، وبقي عموماً محافظاً على «مرجعية أحادية»، نصيّة وفقهية، رغم أنه في بعض تجلياته، وخاصة الحديثة، اتخذ منحى «توليفياً» مستفيداً من مرجعيات فكرية أنتجت صيغاً و«مرجعية تركيبية» أخرى حاولت التوفيق بين منتجات الفكر السياسي الإنساني الحديث والمرجعية الإسلامية، لكنها بقيت محدودة التأثير والفاعلية، لكن ورشة الاجتهاد في هذا المجال قد فتحت ولن تغلق.
● كيف يمكن ترشيد سلوك الحركات الإسلامية السياسي في ظل أنظمة ديمقراطية؟
ـ ليس هناك طريق سوى الطريق الديمقراطي، وهنا ثمة ثلاث فرضيات ثبتت بالتجربة، فقد ثبت قدرة بعض الحركات الإسلامية على التكيّف مع المنظومة الديمقراطية والتحول إلى قوة معارضة أو مشاركة في بلدان مختلفة، ما يُثبت مرونة الإسلام كعقيدة وقابلية الإسلاميين على التكيف مع الواقع. ثانيها: ثبت أنه كلما ترسخت المنظومة الديمقراطية وفُتح المجال أمام إدماج حقيقي للتيارات الإسلامية، ستُصبح أكثر حركيةً وانفتاحاً وقبولاً للآخر.
أما ثالث الفرضيات، فتذهب إلى أن المشاركة في السلطة «تروّض» الأيديولوجيا، وتدفع بالفاعلين السياسيين إلى ترشيد الشعارات المثالية وتحديثها، ذلك أن منطق الدعوة يختلف عن منطق الدولة، فالسياسة تروض الأيديولوجيا والسلطة تفككها، هذا ما أذهب إليه في خلاصة كتابي الأخير.
الخروج من دائرة التخلف
حول البرامج الحديثة التي يمكن تقديمها لهذه الجماعات للخروج من دائرة التخلف المادي والفكري والعلمي الذي تعانيه مجتمعاتنا اليوم، قال عماد إنه لا يمكن الادعاء بوجود وصفة جاهزة، إلا مجموعة أفكار يمكنها على المدى الطويل أن تنجح في استئصال العلة الأساسية المنتجة لظاهرة التخلف التي ليست حصراً بتيار معيّن، بل حقيقة تشمل أغلب التيارات السياسية، والتي عادة ما تكون متصلة بجذور ثقافية، من خلال تأويلات مغالية للنصوص، وبجذور اجتماعية ناتجة عن ارتفاع معدلات البطالة والأمية وفشل مشاريع التنمية وغيرها من المسائل المتعلقة بغياب الحريات والعدالة والمساواة بين المواطنين.
وفي تقديري أن من أبرز الأسباب، إضافة لكل ذلك، هو عدم تحديث نظام التربية والتعليم بكل مؤسساته، فالتعليم في بلادنا لا يزال في غالبه يقوم على التلقين، وليس على الفهم والمساءلة والحوار بين الأفكار، أي أنه يقوم بصياغة العقل الاتباعي، لا العقل النقدي، وهذا ما تقوم بترسيخه بصورة مباشرة الأنظمة المستبدة، لأن العقل الاتباعي يتكيف مع مفاهيم الطاعة والانقياد، أما العقل النقدي، فمتمرد ومتسائل بطبعه.
ولا شك في أن المؤسسة التربوية العربية التقطت بشكل أو بآخر جرثومة «التعصّب» وآفة «التطرّف» الديني، وهذا معناه أن المؤسسة التربوية بدلاً من أن تساعد المجتمع العربي على المواجهة العقلانية، فإنها أضافت إلى مشكلاته تحديات جديدة.