
كتب محمد جاد:
أقيم أخيراً بالمكتبة السينمائية بباريس معرض بعنوان «روما بازوليني»، يستعرض مسيرة بيير باولو بازوليني، الذي طالما أثار الجدل، ولم يزل، بأعماله المختلفة وسيرة حياته. احتوى المعرض على الكثير من تفاصيله الحياتية، إضافة إلى كتبه وأفلامه وقصائده، والعديد من الصور التي تحكي هذه السيرة.. بداية من طفولته، طرده من الحزب الشيوعي، اللجوء إلى روما مع والدته، كذلك.. أولى مقالاته وكتبه وأفلامه، فالمعرض يقدّم مسيرة تجاوزت العشرين سنة من إبداع وفكر مخرج إيطاليا القلِق دوماً، والمتسبب في جدل مزمن ربما لم ينته طالما هناك فاشية من أي نوع تسيطر على هذا العالم.
ما هُم إلا صِيَغ
«قيل لي إن لديَّ ثلاثة أصنام.. المسيح، ماركس وفرويد. لكن هؤلاء ليسوا سوى صيغ بالنسبة لي. في الحقيقة.. إن صنمي أو معبودي الوحيد هو الواقع. وإن اخترت أن أكون مخرجاً إلى جانب الكتابة، فهو بسبب أني أردت أن أُظهر ذلك الواقع من خلال الرموز.
اخترت وسيلة تعبير هي السينما، تعبيراً عن الواقع عبر الواقع».. هذه العبارات لبازوليني تعد مُفتتحاً لعالمه ومَعْبَراً لحيوات شخوصه التي طالما ناضلت في سبيل كسر هذه التابوهات، التي بالفعل مجرد صيغ، تتم استعادتها وإعادة استنساخها في سبيل إنتاج فاشيات جديدة، سواء دينية أو إيديولوجية.
الكائن الاستهلاكي
كل أعمال بازوليني تنادي باستحضار قوة الإنسان الكامنة في روحه، هذه الروح التي تحاول دوماً النظم الفاشية والرأسمالية أن تجهضها بشتى الطرق، على رأسها القمع، وتحويل الإنسان إلى كائن استهلاكي أبله، مجرَّد قرد في قفص، هذه الفكرة التي لطالما كررها بازوليني في أعماله، سواء السينمائية أو الأدبية، هي ما أقلقت السلطة، وجعلتها تقف له بالمرصاد، فلا يكاد يمر عمل من أعماله إلا وتعرّض لسخف الرقابة، سواء بالحذف أو المنع التام، بل وامتد الأمر إلى التحويل إلى القضاء، لتتراوح الاتهامات ما بين البذاءة والتهتك، وصولاً إلى الانتقاص من احترام شعائر المتدينين.
صبيان الحياة
في كتابه «صبيان الحياة» الذي يُعد تطبيقاً لرؤيته حول الواقع، قدّم بازوليني تجارب وحياة فتيان أحياء روما الفقيرة، بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كانت الصدمة أنه نقل هذه الحياة كما يعيشها أصحابها، فاستعمل لغتهم اليومية، من دون الزخارف الأدبية المُعتادة، فكانت اللغة الصادمة هي أول ما واجهه من انتقادات، بحيث خرج العمل عن دائرة الأدب، من وجهة نظر كهنة الأدب. كما صدم البرجوازية وأخلاقها الكاريكاتورية، ليروا نتاج أفعالهم في عالم هؤلاء الفتية الفقراء، الذين لا يدّعون فضيلة، ولا وازع لديهم سوى حُب الحياة، وفعل أي شيء للبقاء أحياء. فهم يعيشون الحياة على حقيقتها، بلا رقابة أو زيف، وهو ما أزعج الجميع، وعلى رأسهم «الحزب الشيوعي» الذي رأى أن الكتاب غير واقعي، لعدم وجود شخصية إيجابية من بين كل شخصياته.
الاغتيال السياسي
لم يستكمل بازوليني مونتاج فيلمه الأخير Salo، وقد عُرض بعد أشهر من اغتياله في دور عرض محدودة بباريس، وقد تم منع الفيلم في كل دول أوروبا، هذا الفيلم المستوحى من عالم “الماركيز دو ساد”، الذي يسخر من السلطة، ويعريها كما لم يحدث في أي عمل فني من قبل. السخرية من كل رموز الفاشية.. السياسي، رجل الدين، القاضي، والرأسمالي، الذين يعملون قدر طاقتهم لتحويل البشر إلى مجرَّد آلات، وفق أهداف وهمية لا يدركها إلا عصابة الأربعة هؤلاء. وفي ظِل العداء العام الذي وجهته السلطة وقتها لبازوليني، ووصمه بمُنتهك للمحرمات، تم تلفيق حادثة أخلاقية له تسببت في موته، وهي مصادقته أحد الفتية الذي تخلص منه في النهاية، وبالفعل تم سجن الفتى سبع سنوات، وأُجبر على الاعتراف بارتكابه الجريمة. لكن الحقائق تكشفت عن أمر أكبر من تفاهة حُكم القضاء المتعاون ــ كما في Salo ــ مع السلطة، بأن السبب يعود لمقال كتبه بازوليني، ويقول فيه إنه يعرف مرتكبي جريمة قتل إنريكو ماتي مدير شركة البترول الوطنية الإيطالية، وهي جريمة كبرى قامت بتنفيذها الفاشية الإيطالية الجديدة، بالتواطؤ مع البوليس السري. فالاغتيال سياسي بالدرجة الأولى، وما القضية الأخلاقية سوى حجة واهية للقضاء على حياة الرجل ومَن يحاول الدفاع عنه.
