
كتب محرر الشؤون المحلية:
كان يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي يحمل موقفين متعارضين، الأول مناقشة تقرير لجنة الشؤون المالية في مجلس الأمة، التي خلصت في تقريرها إلى عدة زيادات، أو زيادات ثلاثية التكوين متعلقة بزيادة علاوة الأولاد وزيادة القرض الإسكاني وزيادة بدل الإيجار، والموقف الآخر كان في اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد يوم الإثنين، وتمَّت الإشارة فيه إلى رفض حكومي لإقرار تلك الزيادات، إضافة لذلك، وكما تم التصريح به بعد الاجتماع بأن مجلس الوزراء قد استمع لشرح وزير المالية الذي بيَّن أن من شأن هذه الزيادات أن تشكل خطراً كبيراً على ميزانية الدولة، كما تمَّت الإشارة في بيان مجلس الوزراء إلى أن «جميع دراسات المؤسسات الدولية التي قامت بها حول الوضع الاقتصادي الكويتي أكدت أن زيادة الإنفاق تجري بمعدلات أعلى من معدلات نمو الاقتصاد للناتج المحلي الإجمالي، وأن الإيرادات العامة لا تأتي إلا من مصدر واحد، وهو النفط، بنسب عالية جداً، وهو مصدر معرَّض للتغيير، بموجب أسعار سوق النفط العالمية».
كما أشار بيان مجلس الوزراء أيضا إلى أن «معدل النمو، أو بالأحرى الارتفاع السنوي للمصروفات العامة، يبلغ نحو 20 في المائة خلال السنوات الـ 12 الأخيرة، في حين يبلغ المعدل السنوي للإيرادات 16 في المائة، ما يؤدي في النهاية إلى عجز سنوي في السنوات المقبلة، جراء تنامي المصروفات».
حملة الصحف
لم يقتصر التعارض على ما هو مطروح على جدول أعمال مجلس الأمة من اقتراحات بشأن الزيادات وبيان مجلس الوزراء عقب جلسته الأسبوعية، فقد كانت مانشيتات الصحافة اليومية أيضا «مؤكسترة» نحو حملة بترشيد الإنفاق، حيث أتت العناوين بـ «البونط» العريض، ترشيد الإنفاق، شدوا الأحزمة، رشدوا الإنفاق، ليستمر دعم السلع، الحكومة تقرع طبول ترشيد الإنفاق، الإنفاق بالغ الخطورة، الترشيد ضروري، زيادة الإنفاق يهدد الميزانية، الحكومة سترفض الزيادات، وخفض الدعم، وتقليص الإنفاق… إلخ.
عدد كبير من الصحف اليومية أتت عناوينها الرئيسة على صدر صفحاتها الأولى بهذا الشكل يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، صحيفتان لا أكثر لم تعنونا مناشيتاتهما كتلك التي عنونت بها الصحف الأخرى.. وكأن الأمر يبدو أنه نوع من الحملة الإعلامية شبه الموجهة لمناورة ما سوف تدور في جلسة المجلس عن مناقشة أمر الزيادات المقترحة.
مصطلح قديم
وبعيداً عن المقترحات التي رفعت في مجلس الأمة بشأن الزيادات أو الأوصاف التي قد تصبغ بها بأنها مقترحات شعبوية مادامت غير مبنية على مرتكزات مالية نابعة مما هو متاح في ميزانيات الدولة الحالية أو القادمة.. بعيداً عن ذلك، وعما سوف يتم من مداخلات للنواب في هذه الجلسة، نريد فقط أن نأخذ الجانب الحكومي تجاه موضوع ترشيد الإنفاق، بموجب ما تم بحثه في مجلس الوزراء.
بداية، هذه ليست المرة الأولى التي نسمع فيها أن الحكومة بصدد ترشيد الإنفاق وتوابعه بشد الأحزمة، فقد خرج هذا المصطلح عام 1988 في عهد وزير المالية الأسبق في ذلك الوقت، جاسم الخرافي، عندما كان يتولى هذا المنصب في الحكومة التي شُكلت بعد الحل اللادستوري عام 1986، وقتها ظهر هذا المصطلح، والحقيقة تقال، إن الوزير الخرافي حاول بقدر المستطاع أن يرتب أمور المالية العامة للدولة بتعيين أشخاص لديهم قدر متفاوت من الكفاءة لتولي هذا الأمر، لكنه مع دعواته هذه اصطدم بمن هم أقوى منه على مستوى مكتب الاستثمار الكويتي في لندن، أو مستوى استثمارات مؤسسة النفط.. وفي الوقت الذي كان يدعو فيه ويعمل قدر استطاعته ضمن هذا النهج، كان هناك شق واسع في الاستثمارات النفطية ومكتب الاستثمار الكويتي في لندن.
نداءات بالهواء
دعوات لترشيد الإنفاق وشد الأحزمة وأموال عامة مفتوحة على البحري الواسع جداً لاستنزاف ما يمكن استنزافه للجيوب الخاصة.. والمسلسل معروف، بصدور أحكام قاطعة على مرتكبيها، والأدهى من ذلك تهريب متهمين آخرين للخارج، حتى لا تسطع الأنوار على الأموال التي سُرقت.
وقتها، وفي ذلك الزمان، وبعد حلّ المجلس وتعليق المواد الدستورية وفرض الرقابة المسبقة على الصحف والمجلات، كان الصوت مكتوما، ولا تسطر كلمة إلا بعد موافقة الرقيب. كما أن أدوات التواصل الاجتماعي أو أجهزة الكمبيوتر لم تكن موجودة بعد، وقلة قليلة من الناس كانت يقتني هاتف نقال، الذي كان يسمى سابقاً هاتف سيارة، نظراً لارتباطه بحجمه الضخم بالمركبة.
المهم، تبيَّن في ما بعد أن الدعوات لشد الأحزمة والترشيد ما هي إلا نداءات مصيرها الهواء وليس الفعل. وكانت «القرعة ترعى» في كافة مجالات الأموال، سواء كانت استثمارية أو خدمية أو نفطية، ولو سمعت الوزيرة السويدية مانا سالين بأمر تلك السرقات، لحرقت جنسيتها السويدية، وقطنت الكويت، لأنها استقالت من الحكومة السويدية جراء قيامها بملء خزان سيارتها الخاصة بالبنزين على حساب الدولة، مستخدمة كرت الدفع المسبق المخصص للسيارة الحكومية.. وعلى الرغم من إعادتها للمبلغ الذي لا يتجاوز العشرين دينارا فقط، فإنه تم اعتبار الأمر استغلالا لمنصبها على حساب المال العام، فقدَّمت استقالتها من الحكومة السويدية، جراء فعلتها، واستغلالها لكرت التعبئة الحكومي.
وحي الحكومة
المهم تصرفت الحكومة في جلستها الأسبوع الماضي، وكأن وحياً نزل عليها، لينبئها بوضع مالي قادم قد يخل بالميزانية العامة للدولة، في ضوء تنامي الإنفاق الجاري.. أو كأن المؤسسات التي أسبغت عليها صفة الدولية لإعطاء مزيد من التفخيم والخطورة كانت موجودة في جلسة المجلس، وأخبرت الأعضاء بالترشيد والتقشف، مع أن كافة المؤسسات الاقتصادية، وعلى رأسها تقارير «الشال» استمرت بقرع هذه الأجراس منذ فترة في ضوء تزايد المصروفات السنوية، وهذه التقارير لم تأتِ أخيراً، بل نُشرت منذ سنوات، ولا جديد في الأمر، سواء بالزيادات التي تمَّت من دون دراسة ولأسباب سياسية وكانت بدايتها معروفة عندما تم إقرار كادر المهندسين لترضيات خاصة، وتبعتها الزيادات الأخرى، من كوادر وغيرها، لبقية المهن الأخرى بطريقة شبه عشوائية، وعدم مساواة لنفس المهنة ما بين وزارة وأخرى.
تجاوزات مالية
هذا من جانب، ومن جانب آخر، أتت هذه الدعوة الترشيدية المفاجئة، بعد ما يقارب الشهر على نشر تقارير المحاسبة على أداء الوزارات والمؤسسات التابعة من تجاوزات مالية وغيرها، وما خُفي كان أعظم.. وشُكلت لجان في بعض الوزارات، لمعالجة هذا الإفراط الحكومي في الصرف والتبذير من الميزانية السنوية للدولة.. ليس بالمبالغ الزهيدة، كما فعلت الوزيرة السويدية المسكينة، بل بملايين ومئات الملايين من الدنانير.. وفي اليوم ذاته الذي تنادى به مجلس الوزراء حول أمر الترشيد، صرَّح النائب عدنان عبدالصمد، بعد مطالعته لتقرير ديوان المحاسبة، أن هناك خمسة ملايين وخمسمائة ألف دينار، مستحقات لوزارة الإعلام وحدها لم تحصلها، خلاف المكافآت الاعتباطية التي تصرف لأعداد كبيرة في وزارة الإعلام على موظفين لا يعرفون درب وطريق الإعلام!
أيضاً، ومنذ أيام قليلة، وقبل التشكيل الحكومي، صرَّحت وزير التنمية السابقة، بأن الحكومة صرفت 9 مليارات دينار على خطة التنمية.. رقم واحد ملياري من دون تفصيل أو إلى أي جهة ذهبت وكيف صرفت، ولا سيما أن المشاريع الحكومية لاتزال تسير سير السلحفاة في الإنجاز، كما هو وضع مستشفى جابر في جنوب السرة، الذي يفترض أن يتم إنجازه كاملاً في نهاية العام الحالي، ويقدر بعض المتابعين أنه قد يتأخر حتى عام 2018!
أما شقيقه مستشفى الجهراء الذي تم الاستعجال فيه، سواء لدى بلدية الكويت أو الدوائر المعنية من مجلس وزراء أو لجنة المناقصات، وهو الموضوع المنشور في عدد «الطليعة» الماضي، فعاد إلى مربعه الأول، بإعادة طرحه من جديد، ستة أشهر منذ إرساء المناقصة على إحدى الشركات المحلية، ستة أشهر من دون أن يدق مسمار في الأرض، حتى غدت المشاريع الحكومية نوعا من «الغشمرة» المالية، وضياعا للوقت والجهد وتردي الخدمات.
مثال «الكويتية»
وللدلالة على القرارات العشوائية التي لا تستقيم على منهج واضح، لدينا مثال: الخطوط الجوية الكويتية، ففي فرقعة أصبع، وخلال أيام قليلة، تم تمويل تأجير طائرات للشركة بمبلغ قليل، تمهيداً لإعادة هيكلتها، والقيام بقدر من أنشطتها، حتى تحول الأمر إلى عملية تأجير وشراء مستقبلي بمبلغ يتجاوز المليار دينار، بعيداً عن التفكير المستمد من تخطيط أو دراسة أو منهاج واضح.. فما إن مرَّت أيام قليلة على نية القيام بشراء الطائرات من الشركة الهندية وبعد إقالة رئيس الشركة، حتى تم التعاقد مع شركة إيرباص للتأجير والشراء.. والعجيب قول وزير المواصلات في جلسة مجلس الأمة الأسبوع الماضي، بأنه ليس له يد في هذه الصفقة، وترك الأمر لمجلس إدارة «الكويتية»! فلماذا لم يترك الأمر لمجلس الإدارة لصفقة شراء الـ 7 طائرات التي تم إلغاؤها؟ يبدو أن الجماعة تعوَّدوا على الصفقات المليارية، ولا تعجبهم المبالغ الزهيدة التي لا تتجاوز المائة مليون!
والطريف في الأمر، أنه في الوقت الذي صرخت به الحكومة من أجل الترشيد، لاتزال بعض الصحف اليومية مستمرة في نشر الإعلان الملون على صفحة كاملة ضمن حملة التبرعات للشعب السوري، حيث لا تقل قيمة الإعلان عن ثلاثة آلاف دينار للصفحة.. وتم ذلك على مدار الأيام وبعدة صحف محلية!
تطبيق الترشيد
أخيراً، نقول إنه لا خلاف على أن مصدر الميزانية يأتي من استخراج وبيع النفط، وهو عُرضة للتقلبات على المستويين القريب والبعيد، ولا خلاف أيضا على تنامي المصروفات الجارية في ميزانية الدولة وتزايدها من عام لآخر.. ولكن قبل رفع تلك الشعارات، لابد أن تكون هناك مرجعية ومنهجية عمل واضحة للترشيد، لا أن يكون مجرد نوع من المواجهة السياسية مع مطالبات الأعضاء في مجلس الأمة الحالي، أو نوع من «المكاسرة» بين ما يتم طلبه وما يمكن الموافقة عليه من الطرف الحكومي.. بداية الترشيد تبدأ بمواجهة الفساد الذي أصبح حتى الطفل يتحدث عنه، والذي جعل من الكويت في حال من الدحرجة المستمرة، ومن سنة لأخرى في سلم المؤشرات العالمية في مدركات الفساد، وغدت بشكل سنوي في آخر الدول الخليجية في كافة المؤشرات الأخرى، عدا مؤشر حالات الطلاق، فقد احتلت المركز الأول بين الدول الخليجية.. ولا نعتقد بأن حالات الفساد خافية على رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء الآخرين، لكنهم ملتزمون بالمثل الدارج «العين لا تعلى على الحاجب».. ما لم تكن هناك مواجهة حقيقية لأجواء الفساد، فلا حديث عن الترشيد كشعار ترفعه الحكومة أو بعض وسائل الإعلام.. ما لم تكن هناك خطوة جادة، فلا حديث عن الترشيد ومواجهة العجز المتكرر القادم في الميزانية، فبعدها يمكن القول بأن هناك جوانب متعددة لوقف الهدر المالي مهما قلّ شأن المبلغ.
عدا ذلك، لا حديث عن ترشيد أو دق نواقيس الإنذار.. وإن حدث عجز مالي في سنوات مقبلة، فلن يكون ضحاياه إلا من ذوي الدخول المحدودة وأغلبية الطبقة الوسطى، علماً بأن آثاره بدأت تغزو حياتنا، ممثلة بالمشكلة الإسكانية التي تفاقمت أعدادها من الطلبات، وسوء تردي الخدمات الصحية العامة، وتدني مستوى التعليم العام.. وهكذا، السكن والتعليم والصحة، لتكون عودة للوراء من سنة لأخرى، خلاف ما ورد في المادة 13 من الدستور، التي نصَّت على أن التعليم ركن أساسي لتقدم المجتمع تكفله الدولة وترعاه والمادة 15 من الدستور التي تنص على عناية الدولة بالصحة العامة وبوسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة.. ولم تأتِ المواد الدستورية كنوع من الزينة، بل يفترض أن يتم تطبيقها، وهذا ما قامت به الدولة وسعت إليه منذ بداية الستينات، إلا أن القفز على الدستور ومحاربته أديا بنا إلى هذه الحال.
الترشيد في النهاية، أفعال وليست أقوالا سمع عنها في وقت سابق في نهاية الثمانينات كما ذكرنا.