
كتب أنور عبدالعزيز ناصر :
استضاف مهرجان القرين الثقافي، على مدى 3 أيام، أعمال الندوة الفكرية «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي- إعادة تفكير»، وذلك خلال الفترة من 14 إلى 16 الجاري.
وتمثل الندوة إعادة تفكير، من خلال زيارة لأبحاث الندوة الكبرى، التي عقدت بالكويت في أبريل عام 1974، بالتعاون بين جمعية الخريجين وجامعة الكويت، وحملت عنوان «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي».
ودارت فكرة ندوة «القرين الثقافي 20» حول إعادة قراءة أبحاث تلك الندوة قراءة نقدية متعمقة من قِبل مجموعة من الباحثين والمتخصصين، وتقديم رؤية جديدة، بعد مرور 40 عاماً على الندوة الأولى.
وطرحت الندوة الأسئلة الكبرى ذاتها، التي طرحت قبل 40 عاماً، وأكد المتحدثون في الجلسة الأولى، أن العالم العربي بات الآن أكثر تراجعاً، من حيث التمزق السياسي والطائفي والحروب الطاحنة.
الجلسة الأولى
تناولت الجلسة الافتتاحية المحور الأول للندوة «الحضارة وقضية التقدم والتخلف»، وقدمها الباحثان د.مصطفى شريف، المتخصص في الشؤون العربية من الجزائر، ود.الصادق بخيت، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي- الأردن، وأدار الجلسة د.محمد الرميحي.
وبسبب عارض صحي، قرأ الكاتب الكويتي خليل حيدر بحث د.مصطفى شريف، الذي حمل عنوان «الحضارة ورهان التقدم والتخلف»، وجاء في ملخصها: تغيّر العالم على مدى 40 سنة بشكل كبير، لكن العالم الإسلامي لم يستطع معرفة إعادة ابتكار حضارة يتلاقى فيها القديم بالجديد، رغم المكاسب والتطورات المحققة. ساد الاعتقاد بسقوط حائط برلين سنة 1989 بالتفوق النهائي للنموذج الغربي. ومن أجل التمكين لهيمنته، والتوجه نحو مسلك التزييف، تمَّت صياغة صورة المسلم وفبركتها على أساس تمثيلها وكونها صورة العدو الجديد، المعرض لما يسمى الحضارة الغربية المبنية على الديمقراطية، والعلمانية، والليبرالية الاقتصادية، والمفاهيم الغربية للحداثة أو التقدم، رغم أن العالم العربي له المقومات لإبداء الرأي في الحداثة وفلسفتها.
وكان لأحداث 11 سبتمبر 2011، والعمليات المتطرفة الوحشية، أثرها البالغ في تغذية الدعاية المناهضة للمسلمين، مستغلة نقائصهم وتناقضاتهم، وتبين الأزمة الاقتصادية العالمية، وسياسة الكيل بمكيالين، والأزمة الأخلاقية، والتباعد الموجود ما بين أقوال القوى الغربية الكبرى وأفعالهم.
الآن، يشهد النظام العالمي الجديد انسداداً فظيعاً وتراجعاً في العدالة والحوار والتعايش على مستوى العلاقات الدولية. وفي المقابل، يعاني العالم الإسلامي حالة من التردي، ويعرف صعوبات عدة في الحفاظ على حضارته، وفي الخروج من أزمة التخلف العلمي. اليوم بالمفهوم الواسع والكامل يمكننا القول بأنه لا توجد حضارة، لا شرقية ولا غربية، رغم الإنجازات التقنية والتقدم المادي الذي نشهده.
التقدم والتخلف
وفي الجزء الثاني من الجلسة، استعرض د.الصادق بخيت، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي، ورقته البحثية حول «الحضارة وقضية التقدم والتخلف»، مسلطاً الضوء على ندوة السبعينات، ورؤية المشاركين فيها الثاقبة والمستشرفة لواقعنا الراهن، ثم طرح سؤالاً عملاقاً لفهم تراجعات الحاضر، التي قد تقودنا إلى مزيد من التخلف، بدلاً من التقدُّم، وقال: دعونا نفكر في منطق سؤال الحال الراهن، من دون أن نجهد أنفسنا الآن بمحاولة الإجابة عنه، لفهم مدى عنف الصدام والخصام الذي نشهده أمام ناظرينا، ولماذا منطلقات هذا السؤال الآن محورية.
لو أردنا أن ننظر إلى ما أوصلنا إلى هذه اللحظة، من ينتقم ممن في عالمنا العربي والإسلامي؟، ومن يتحالف مع من خارجه، للإجهاز على حاضره وحواضره العتيقة العتيدة، من انفصال جنوب السودان، مروراً بهلاك الصومال وأفغانستان، واضطراب حال دول الثورات العربية، إلى نذير «الفوضى الخلاقة» في العراق، وحقيقة «التدمير الخلاق» في سوريا؟!
ورأى الصادق بخيت، أن سؤال الاقتصاد هو واحد من أهم الأسئلة، التي طرحت في ندوة 1974، وهو على بساطة طرحه، إلا أنه من أعقد القضايا، التي يمكن تخيلها في الوطن العربي، بل في العالم اليوم، لأن بعضها متعلق بالتخلف الاقتصادي بالضرورة، كما أنه واحد من أكثر الأسئلة المشحونة سياسياً، وقد ظهر هذا جلياً في الأعمال القيمة للمفكرين العرب، الذين أسهموا في الندوة، وأسهبوا في شرح وتوضيح الظاهرة، وأيضاً من قِبل الاقتصاديين والمؤرخين، وغيرهم من الباحثين، لشرح السبب أن معظم دول أميركا الشمالية وأوروبا وبعض دول آسيا وأميركا اللاتينية، تجعلنا نكرر السؤال ذاته، الذي طرح عام 1974: لماذا تتقدَّم هذه الدول وبلادنا العربية ليست كذلك؟
اليوم الثاني.. تأخر التنمية وتضييق الحريات
وفي اليوم الثاني للجلسة، اعتبر المشاركون أن تأخر التنمية والتضييق على الحريات أبرز المشكلات، مركزين على التخلفين الفكري والسياسي، وأبعادهما الحضارية، وأسباب تأخر الدول العربية عن مثيلاتها في العالم، فكرياً وسياسياً.
وفي هذا السياق، قسّم د.رضوان السيد (لبنان) ورقته البحثية «التخلف العربي وأبعاده الحضارية» إلى أربعة أقسام، أولاً: مسألة الحضارة والحضارة العربية بالذات، في رؤى المفكرين العرب في الأزمنة الحديثة، ثانياً: التطور الجديد للنظر في المسألة خلال العقود الخمسة الماضية، ثالثاً: طبائع الدولة والسلطة في العالم العربي في ظروف الحرب الباردة، وتأثيراتها في التعامُل مع المسألة، رابعاً: السياقات العالمية لمسألة الثقافة في زمن الحرب الباردة، ثم زمن الهيمنة الأميركية والعولمة.
وشدد السيد على أن التخلف له مستويات متعددة، منها تخلّف عن المسار العالمي لانتظام المجتمعات والدول، والتقدم النوعي، وتخلف في مجال إقامة الدول الوطنية الجامعة والدافعة باتجاه قضايا المواطنة، والحريات، وإنسانية الإنسان، وكذلك تخلُف فظيع في قضايا التنمية ونوعية العيش.
المثقف العربي
وبشأن الأصوليات الإسلامية، أوضح أنها كانت نتيجة أو نتائج للتخلف المفروض على العرب، وأن هذه الأصوليات تأتي في المنزلة الخامسة أو السادسة في تعداد عوامل التأزم الحاصل، مؤكداً أن المثقفين العرب لم يقوموا بواجبهم ويكملوا ما بدأه نظراؤهم في الألفية الماضية، لذلك لم يظهر أي مشروع نهضوي، فانصرفت الثقافة في حقبتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي إلى نقد الموروث، وليس الحاضر، وتماشياً مع هذا الواقع عجز المثقف العربي أمام التأزم الهائل والمذابح والإبادات ومعضلات الحاضر.
ولفت السيد إلى أن العرب تنقصهم مؤسسة الدولة الوطنية أو القومية وكذلك مؤسسة أو جمهرة علماء تمثل الأمة ومثقفيها تعيش في الحاضر وتفكر في المستقبل، وغياب هذين العاملين في الأزمنة الحديثة والمعاصرة أدَّى إلى التدهور والضياع، بل إن عسكريي الأمة ومثقفيها اشتغلوا ضدها، وحالوا دون تقدمها وانتظامها.
التخلف المعرفي
واستعرض د.محمد نورالدين أفايه (المغرب) مظاهر التخلف المعرفي العربي، مبيناً أن الغرب بدأ منذ القرن التاسع عشر بإجهاض كل محاولات النهوض العربية الإسلامية إلى الآن، وفي كل مرة يجد الوسائل الملائمة لإدامة التأخر التاريخي العربي، ما أدَّى إلى ظواهر فكرية وسياسية تمكن الفكر العربي من التقاط بعض أسبابها ومكوناتها بطرق عقلانية، وفلتت منه مستويات متعددة من هذه الظواهر، ولاسيما ما يتعلق بالتعبيرات الانفعالية والعاطفية لمختلف الخطابات العربية أو التجليات الرمزية والمتخيلة للصيغ والمواقف التي تتخذها هذه الفئة أو تلك إزاء الوقائع العربية.
وتساءل: «هل الضعف المعرفي الملتصق بالفكر العربي راجع إلى ارتهانه للاعتبارات الأيديولوجية، مادامت المسألة السياسية طغت على هذا الفكر منذ بداياته النهضوية إلى الآن؟ أم أن الأمر مرتبط في الأساس بـ «الإبيستيمي» المعرفي العميق الذي تتحرك داخله اللغة والأفكار والمفاهيم؟».
التخلف السياسي
وتناولت الجلسة الرابعة محور “التخلف السياسي وأبعاده الحضارية»، وتحدث فيها كل من د.عبدالله القويز (السعودية) ود.إسماعيل الشطي (الكويت) وأدارها المستشار في الديوان الأميري محمد أبوالحسن، وحرص د.عبدالله القويز على تقديم تعريف التخلف السياسي في مستهل بحثه، ثم انتقل إلى محور آخر يتعلق بالوحدة العربية، وأردف: «إن أول التحديات الداخلية والخارجية التي يتعيَّن على قيادات الدول العربية التعامل معها بكل جدية هو العامل الديموغرافي، فعلى العرب تعزيز ترابطهم الاقتصادي، والتفاوض مع الكتل الاقتصادية العالمية كسوق واحد».
وفي ما يتعلق بإعادة كتابة التاريخ، قال: لابد من حشد الجهود لإعادة كتابة تاريخنا بحلوه ومره وتخليصه من تلك الهالة التي تكبل الأحياء، كل أمم الأرض أعادت النظر بتاريخها مهما كان مجيداً تركته يستريح وانطلقت لبناء مستقبلها.
النموذج الغربي
وحذر د.إسماعيل الشطي من الاعتماد على النموذج الغربي في قياس الحضارة والتقدم والتخلف، معتبراً أن الصراع كان ولايزال أساس العلاقة بين المخلوقات في التصور الغربي، وكانت الحياة ثمرة القوة، لذا لا تجد في المنظومة القيمية الغربية أي غضاضة في الانحياز للقوي «الرجل الأبيض» ومنحه جدارة الحياة أو الرفاه على حساب حياة الضعفاء، وقد أفرز هذا التصور حضارة عنصرية منحازة لأعراق من دون أعراق، ولديها هوس هستيري في حيازة القوة، وانتهى بنظام رأسمالي يقدس الحرية، ما دامت تضمن له النمو على حساب العدالة، وأصبح استنزاف ثروات الكون سمة من سماته البارزة.
وتابع: «لم يشهد منذ بدء الخليقة أن حضارة وضعت الحياة برمتها تحت تهديد الإبادة والدمار، كما تفعل حضارة الغرب اليوم، وأن الوطن العربي لا يمكنه مجاراة الحضارة الغربية، بمنجزاتها المادية والمعرفية، لكنه يستطيع أن يقدّم تصوراً للحياة، يعيد لها طهرها الذي لوثته الحضارة الغربية بأسلحة الدمار الشامل».
اليوم الثالث.. 10 محاور
وناقشت الندوة في يومها الثالث 10 محاور في التعليم والسياسة والاقتصاد، مقدمة مجموعة اقتراحات قيمة.
وفي جلسة تمحورت حول «القيم والعادات والتقاليد العربية وأزمة التطور الحضاري»، تحدث د.أحمد زايد (مصر) ود.محمد الحداد (تونس)، محددين بعض المعوقات التي ساهمت في هذا التأخر.
وقال زايد إنه «رغم الشوط الكبير الذي قطعته البلدان العربية على طريق التحديث والتنمية، فإن البناء الاجتماعي والثقافي لايزال يفصح عن تناقضات وتيارات تجعله عرضة للتشظي المستمر، من دون أن يكون المجتمع قادراً على تطوير مستلزمات لضبطه ونظمه في تيار عام».
واعتبر الحداد أن «المجتمعات العربية شديدة التمسك بالماضي، لأنه كان أرقى من الحاضر»، مبيناً أنها تتطلع إلى استعادة دور ريادي في العالم، «ولا يمكن لها تحقيق هذا التطلع، ما دام العالم مستمراً على وضعه الحالي، من هنا يتحوَّل الماضي لديها إلى مسكن للآلام، في انتظار تغيير صعب المنال لموازين القوى».
وضمن محور «العائلة ودورها في التطور الحضاري العربي»، لفتت د.منى فياض (لبنان) إلى أن «الثورات العربية تدعم التحول الحاصل على مستوى بروز جيل جديد يطالب بانتمائه إلى القيم العالمية التي تؤكد حقوق الفرد وحرية التعبير والمساواة من دون أن يعني ذلك تخليه عن انتمائه لثقافته وهويته العربية»، موضحة أن الجيل الجديد لا يعتبر أن المساواة بين الجنسين وجهة نظر، ولا يعتبر أن حرياته الشخصية قابلة للمساومة.
في الإطار نفسه، رأت ميسون العتوم (من الأردن) «أن العرب فشلوا في خلق الفرد المواطن على حساب الفرد المندمج، وكذلك لم تنجح حداثة التكنولوجيا والمعلومات في التغلب عليه، بل نستطيع القول بأن العربي خرج من اندماجه التقليدي في العائلة، ليدخل في اندماج أوسع، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي».
سلطة القبيلة
ثم فتح باب النقاش، وذكر الكاتب عبدالمحسن مظفر أن سلطة القبيلة تتجاوز أحياناً سلطة الدولة، إذ إن عنفوان القبيلة وقيمها يكاد يعيق مؤسسة القانون في البلد، معتبراً أن هذه المشكلة من أبرز معيقات التطور الحضاري، ولا سيما أن مفاهيم القبيلة تضع أفضلية لأبنائها من دون غيرهم.. أما الكاتب الصادق بخيت، فلفت إلى أنه كلما ضعفت سلطة الدولة ازدادت سلطة القبيلة.
من جانبه، شدد الكاتب خليل حيدر على أن المجتمع العربي لم يستطع التخلص من بعض مثالبه، إذ إن ثمة منظومة لاتزال تسيطر على مفاصل الحياة، وعجزت التقاليد الحديثة أو التغيُّرات عن حسم الأمور لمصلحتها، مشيداً بأن الحسم مطلوب، لأنه أهم خطوة نحو بلوغ الحداثة.
وفي جلسة أخرى تمحورت حول الإعلام العربي والعولمة، ناقش بحث د.صالح أبوصبع (من الأردن) دور الفضائيات العربية والأجنبية ودور الإنترنت وأشكال التواصل الحدية وشبكاتها، وتأثير هذه الوسائل الجديدة في المجتمع، مقدماً مقترحاً بشأن وضع عناصر أساسية لاستراتيجية الإعلام العربي تستطيع من خلالها مواجهة تحديات العولمة.
من جانبه، أكد د.خالد عزب (مصر)، أن ما يعانيه العرب راهناً، هو التركيز الحاد على تأثير الفنانين، ففي القرن العشرين صفق العرب للمغنين أكثر مما صفقوا للمفكرين، من هنا تجيء أهمية الصناعة الإعلامية في عصر الوسائط الإعلامية المتعددة، التي من أركانها المصداقية والاستدامة، لكي تكسب الشارع إلى جانبها.
التعليم والتربية
وضمن جلسة نظام التعليم العربي وأزمة التطور الحضاري، أكد د.محمد بن فاطمة (تونس)، أن التربية العربية تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى حركة تجديد تربوي شاملة تتجاوز حدود الإصلاح الجزئي، مشدداً على اعتماد رؤى جديدة تنطلق في ذلك من الواقع الميداني، وتضع الأهداف الواضحة والسياسات الوجيهة، التي تحدد الاتجاه من الإنسان، والزمن، والحضارة، بصورة تكفل للإنسان العربي، وللمجتمعات العربية، المشاركة في بناء الحضارة.
أما د.فوزي أيوب (لبنان)، فأكد أن أي تحوُّل تربوي عربي حقيقي وشامل لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تحوُّلات سياسية عربية كبيرة تحدث طوعا، أو عبر ربيع عربي ناجح، فالتربية «شيء» تابع للسياسة، رغم أن التربية تعود فتؤثر في الجمهور الحامل للمواقف السياسية، ولا يمكن أن تتغيَّر بنية النظام التربوي ونوعيته، قبل أن تتغيَّر بنية النظام السياسي العربي أولاً، لأن القيادة التربوية المجددة تنبثق عادة من قيادة سياسية مجددة.