
إعداد: أنور عبدالعزيز ناصر
تحاول فصول كتاب «عُمان: الإنسان والسلطة» لمؤلفه سعيد سلطان الهاشمي، قراءة العلاقة الجدلية القائمة بين الإنسان والسلطة، تمهيداً لفهم المشهد السياسي العُماني المعاصر، وتتبع كل مرحلة من مراحل ذلك الجدل والصراع على مستوى الأفكار والأحداث والشخصيات.
يتكوَّن الكتاب من أربعة فصول، تقدم قراءة ممهدة في أربعة تيارات وفئات سياسية واجتماعية لعبت دوراً مهماً في كل عقد من عقود الدولة المعاصرة في عُمان، التيارات اليسارية من منتصف الستينات مروراً بالسبعينات إلى منتصف الثمانينات، والتيارات الإسلامية من منتصف ثمانينات القرن الماضي إلى مطلع الألفية الجديدة، ومؤسسات المجتمع المدني التي نشأت أو أُنشئت في جو سياسي مملوء بالشك والريبة والخوف من كل ما هو سياسي، وأخيراً الحركة الشبابية العُمانية الجديدة التي جاءت مواكبةً لربيع العرب وثوراتهم من أجل الكرامة، والتي شكلت معه الحالة العُمانية مثلاً يستحق التوقف عنده واستظهار تفاصيله الإيجابية والسلبية.
قراءة في معوقات المجتمع المدني في عُمان
قفز موضوع المجتمع المدني إلى دائرة اهتمامات الرأي العام في عُمان مع مطلع الألفية الثانية، حيث راج استخدام المصطلح، إعلامياً وسياسياً وثقافياً، بشكل ملحوظ، وأصبح مفهوم المجتمع المدني محل بحث وتنظير، وأضحت استحقاقاته تستوعب وتثمن أكثر فأكثر، كاستحقاقات أساسية، ليس من حيث الإسهام في التنمية الوطنية فحسب، بل أيضاً، في النسق نفسه، في إثراء مفهوم المواطنة وتعضيده، من خلال تفعيل إسهامات المواطنين – من مختلف مواقعهم في المجتمع المدني – في بناء الصرح الوطني.
كما أن استشعار العُمانيين بأهمية بلورة مفهوم المجتمع المدني في الوعي الوطني، ومن ثم العمل على تفعيل استحقاقاته في الحياة الوطنية، جاء بشكل طبيعي في سياق تطور دائب منذ بداية نهضتهم الحديثة نحو استكمال جميع عناصر الدولة المعاصرة، واستيفاء جميع مكونات المجتمع المعاصر المنفتح حكومة وشعباً على خبرات الأمم.
من هنا، لم يقف النظر العُماني طويلاً عند كون مفهوم المجتمع المدني في توصيفه الحديث جديداً عليه، كما أنه لم يعبأ كثيراً بعثرات هذا المفهوم وتطبيقاته في خبرات مجتمعات ناهضة أخرى.
على عكس ذلك، أدرك المجتمع العُماني أن جوانب مشهودة من هذا المفهوم مألوفة في خبرته التاريخية، واعتبر أن التفاوت في مدى نجاح محاولات الشعوب في استقدام الأوفق والأرقى في حياتها الوطنية المعاصرة أمر يمكن تفهمه، من خلال إرثها التاريخي من جهة، وتطلعها المستقبلي من الجهة الأخرى.
ولا يمكن إصدار أي تقييم منصف لمؤسسات المجتمع المدني العاملة في عُمان لأسباب تتعلق بعوامل كثيرة، منها أعمارها الزمنية من جهة، وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد من جهة أخرى.
ففي وسط عاش فيه المواطن وتربي على أن الحكومة عليها كل الواجبات التأسيسية، بل عليها الدعم والرعاية والمراقبة أيضاً، أثر ذلك سلباً في طبيعة سير ونمو هذه المؤسسات، إذ سلبها الاستقلالية التي يجب أن تشعر بها، وزرع الاتكالية في نفوس فئات كثيرة من أعضائها.
في الجانب المقابل، هناك إيجابيات لا يمكن إنكارها من قبيل وضع لبنات العمل المؤسسي بمفهومه الحديث، إلا أن الحكومة حتى هذه النقطة، في مرحلة انشغالها ذاك، لم تترك المجال لبناء ثقافة رصينة جادة للعمل المدني عموما، ولم يذكر خطابها الإعلامي، أو يذكر أهمية، وجود دور مؤسسات المجتمع المدني من البدايات.
إضافة إلى مخاوف واضحة من قبل الحكومة لإعطاء الاستقلالية لهذا الجهد تحت حجة أن المجتمع لم يبلغ سن الرشد بعد، بل أكثر من ذلك، ظلت الحكومة وإلى وقت قريب، قلقة من المطالبات الأهلية بتشكيل المؤسسات المهنية والنقابات العمالية، إذ إن هذا النوع من التنظيمات سيفتح الباب واسعاً أمام مطالبات سياسية لا ترغب السلطة في توفيرها في هذا الوقت، بل ترى في ذلك زعرعة للأمن والسلم الوطنيين، وهذا كان مبرراً كبيراً وواسعاً لتأخير كثير من المطالبات المدنية المشروعة، فهذا مسؤول عُماني يعلق على عدم وجود جمعيات مهنية: «السماح بقيام جمعيات مهنية يحتاج إلى قرار سياسي، ثم إننا لا نشعر في الوقت الحاضر بحاجة لها أو مؤهلين للسماح لمثل المؤسسات بالعمل عندنا».
صحيح ان الوضع تغيَّر قليلاً في الفترة الأخيرة، وتم السماح لتلك الأنواع من المؤسسات والنقابات العمالية بالانتظام والتشكل (ولو أنها جاءت أيضاً من قمة الهرم السياسي والاجتماعي)، إلا أن الصورة القابعة في الخلفية الذهنية – إلى الآن – لم تبتعد كثيراً عن تلك المقولة آنفاً، والتي تعبّر عن صعوبة تقبّل مؤسسات مجتمع مدني حرة وذات نفوذ وتأثير، والتعايش معها تحت سماء واحدة.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن هناك العديد من المعوقات الأخرى التي تواجه المجتمع المدني العُماني، نحدد منها على سبيل المثال لا الحصر: تضييقات التشريعات والقوانين، الاعتماد المباشر على المؤسسات الحكومية، العزوف عن بعض الفئات الواعية والشابة، قلة الخبرة في التعاطي مع إدارة المؤسسات، ضعف القدرات الفنية لبعض المتطوعين، شح الدعم المالي والفني والعيني، عدم رسوخ وشيوع ثقافة العمل التطوعي، شيوع النغمة النفعية في المجتمع، غياب الرموز والقدوات وضعف التغطية الإعلامية لبرامج وأنشطة هذه المؤسسات والتوثيق لها.
قراءة في الحراك
الشبابي العُماني
عاشت عُمان حركة احتجاجية مكثفة في الفترة من مطلع فبراير وحتى منتصف مايو 2011، شهدت فيها البلاد تخلفاً جديداً عدة مستويات: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
فالبلاد مرَّت بفترة استرخاء اجتماعي وسياسي منذ القضاء على المعارضة المسلحة، ممثلة بالجبهة الشعبية لتحرير عُمان في أواسط سبعينات القرن الماضي، إلا أن ذلك لا يعني أن الإنسان العُماني ظل ساكناً مغيباً عن تشكل وعيه السياسي، بل عاش مراقباً، مقيماً، وشريكاً فاعلاً في جهود التنمية والتعمير التي وعده بها السلطان قابوس في خطابه الأول بأنه سيعمل «بأسرع ما يمكن، لجعلهم يعيشون سعداء لمستقبل أفضل»، وتعهد «بالعمل الجاد على تثبيت حُكم ديمقراطي عادل لبلادهم».
كما أنه ليس بغريب على العُمانيين الاشتغال بإصلاح أنظمة حكمهم، والتمرد على كل فكرة تحاول أن تصيبهم بالجمود والتأخر، أو حتى التنكر وعدم احترام خبرتهم التاريخية.
واللافت في هذه الاحتجاجات – خلافاً للثورات الشعبية التي عمَّت تونس ومصر وليبيا.. وغيرها من الدول العربية – أنها لم تتطرَّق إلى شعار «إسقاط النظام»، بل اقتصرت على المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتحسين الأحوال المعيشية وإجراء إصلاحات سياسية، من بينها: حل مجلس الوزراء الحالي، محاربة الفساد، محاسبة الوزراء، وإصلاحات دستورية جذرية تضمن الحريات العامة، كحرية التعبير والتجمع وتكوين النقابات والجمعيات، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي مطالب ما فتئ العُمانيون يطالبون بها حكامهم سلاطين وأئمة منذ قرون.
هناك ثلاث أزمات رئيسة كانت ضاغطة على الإنسان العُماني، متراكمة ومتراكبة عليه منذ سنين، شجعته بصورة علنية على كسر حواجز الخوف والتردد، وحفزته طبيعياً للمجاهرة بصوته وإصراره على المطالبة بحقوقه، والخروج إلى ساحات الاعتصام وتأسيس منتدياته الحرة فيها.
وأشار المؤلف إلى أن أزمات التعليم والتشغيل والمشاركة السياسية ما فتئت تشكل أزمات، في ظل نظام سياسي عُماني يتعالق معها بمسكنات وقتية، وظن أنه يحسن صنعاً في إدارتها، فيما في حقيقة الأمر كان يقتّر على الأولى (التعليم)، ويقلل من الثانية (التشغيل)، ويؤجل الثالثة (المشاركة السياسية)، لحين بلوغ المجتمع سن الرشد، وفق رؤيته ومعاييره غير المعلنة ولا المقنعة.
وعلى الرغم من أن سنتين ليستا بالمدة الطويلة الكافية لتتبع آثار وعواقب تلك القرارات التي اتخذها النظام السياسي إبان الربيع العُماني وتقييمها على بينة النظام السياسي والاقتصادي في عُمان بعمق تحليلي له وزنه على الواقع، فإن هناك بعض الملاحظات التي نرى من خلالها إجمال هذه المرحلة:
● أنجز الشباب العُماني مهمته بنجاح، عندما استثمر الظرف التاريخي للتنبيه إلى كوامن الخلل عند السلطة المركزية وأوجه القصور التي تعانيها الدولة في هياكلها التنظيمية وبنيتها الأساسية، وقبل ذلك أهدافها السياسية والاقتصادية.
● تبين بالتجربة العملية الحاجة لمؤسسات دولة تواصل نضال الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الشامل، وإلا، فإن الأمر لن يغدو أكثر من فورة عابرة لن يصل أثرها أعمق من السطح.
● أوضحت التجربة كذلك استمرار القبضة الأمنية على مفاصل الدولة، وعدم ثقة هذه الأجهزة في قيام السلطات التشريعية والقضائية بمهامها الطبيعية، والتعلم من أخطائها وتجاربها، الأمر الذي ولّد خللاً بنيوياً لا يمكن إخفاؤه عند تقييم المشهد السياسي العُماني المعاصر.
● لا يمكن لفكرة النمو الاقتصادي أن تقدم حلولاً فاعلة وعميقة للمجتمع والدولة في عُمان.
ويبدو أن التنمية الإنسانية الحقيقية والشاملة هي التي تحتاج إليها البلاد في راهنها ومستقبلها القريب، ولا سيما الجوانب المتعلقة بالتعليم والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة والتصدي لمشكلات الفساد الإداري والمالي بمزيد من سلوكيات وتشريعات المحاسبة والرقابة والشفافية التي هي باختصار مباشر التطبيقات العملية للديمقراطية التي – لسوء حظ الأنظمة السياسية – هي الضامن الوحيد والمجرب لاستمرار الأمن الإنساني والسلم الوطني والوئام الاجتماعي.
● ينبغي التفريق بين تنازلات تكتيكية يقدم عليها النظام لوأد أي حركة احتجاجية، ما يلبث أن يتراجع عنها، وبين إصلاح سياسي حقيقي، حيث كشفت التجربة بعد أحداث الربيع العربي أن الأنظمة السياسية في الخليج لا تملك الإرادة ولا المقدرة بحكم طبيعة تكوينها، للانتقال إلى مشروع إصلاح سياسي حقيقي، إذ إن ذلك رهن بأمور كثيرة، لها علاقة ببنية هذه الأنظمة وطبيعة توجهاتها السياسية والاقتصادية، وموقعها في الخارطة الاجتماعية، وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
وأخيراً، وليس آخراً، فإن عُمان اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي، حيث الشعب قال كلمته، قدر استطاعته، والسلطان تفاعل مع مطالب الناس، قدر خبرته وفهمه لطبيعة الحكم الذي أسسه، إلا أن الجيل الجديد في عُمان لن يكتفي بالمراقبة والتفرج هذه المرة، لأنه أصبح يمتلك أدوات التغيير وتوقيتاتها أكثر من ذي قبل، كما أصبح أكثر حرصاً على بناء دولة راسخة الأركان في معمارها الدستوري والسياسي والاقتصادي.
ولأن الشعب في عُمان يريد الحياة، فإن الزمن العربي الراهن، بكل ثوراته، وثرواته الإنسانية، ونهضته من سبات الاستبداد والظلم، يغذي هذا المطلب ويمنحه شرعية تاريخية لا يمكن لعاقل أن يتجاهلها، كما لا يمكن لحصيف أن يقزمها.
وعندما يريد الشعب، فليس من قوة تقف أمام ما يريد.