
إعداد: أنور عبدالعزيز ناصر
تحاول فصول كتاب «عُمان: الإنسان والسلطة» لمؤلفه سعيد سلطان الهاشمي، قراءة العلاقة الجدلية القائمة بين الإنسان والسلطة، تمهيداً لفهم المشهد السياسي العُماني المعاصر، وتتبع كل مرحلة من مراحل ذلك الجدل والصراع على مستوى الأفكار والأحداث والشخصيات.
يتكوَّن الكتاب من أربعة فصول، تقدم قراءة ممهدة في أربعة تيارات وفئات سياسية واجتماعية لعبت دوراً مهماً في كل عقد من عقود الدولة المعاصرة في عُمان، التيارات اليسارية من منتصف الستينات مروراً بالسبعينات إلى منتصف الثمانينات، والتيارات الإسلامية من منتصف ثمانينات القرن الماضي إلى مطلع الألفية الجديدة، ومؤسسات المجتمع المدني التي نشأت أو أُنشئت في جو سياسي مملوء بالشك والريبة والخوف من كل ما هو سياسي، وأخيراً الحركة الشبابية العُمانية الجديدة التي جاءت مواكبةً لربيع العرب وثوراتهم من أجل الكرامة، والتي شكلت معه الحالة العُمانية مثلاً يستحق التوقف عنده واستظهار تفاصيله الإيجابية والسلبية.
قراءة في الحركات اليسارية
تأتي أهمية دراسة الحركات اليسارية في عُمان في طليعة الموضوعات المسكوت عنها عمداً، لذلك تستمد تأثيرها في الحراك السياسي والاجتماعي للبلاد من قوة تغيبها أكثر من وفرة حضورها.
هذا الصمت لم تمارسه السلطة وحدها، والتي لم تحقق انتصاراً سياسياً وعسكرياً فحسب، بل حققت ما هو أهم من ذلك، ألا وهو محو ذاكرة تلك التجربة من الذاكرة الوطنية، بل مارسه كذلك أفراد وقيادات تلك الحركات، فغدا الأمر وكأنه سر عظيم تواطأ الجميع على دفنه وإسقاطه من الذاكرة الوطنية.
لقد سعى النظام السياسي العُماني الحالي منذ قدومه للسلطة في 23 يوليو 1970 إلى محاربة هذه الحركات اليسارية، وضربها بيد من حديد ونار في بدايات حكمه، ومواصلة تعقبها طوال أربعة عقود بشتى الوسائل الخشنة والناعمة، رغم الخدمات الوطنية الكبيرة التي قدمتها هذه الحركات للبلاد، التي ليس أقلها التخلص من نظام السلطان سعيد بن تيمور، والتمهيد لبناء دولة عصرية وفق تصوُّرات التنمية الإنسانية الحديثة.
لقد كان حلم شباب هذه الحركات إقامة «جمهورية ديمقراطية مستقلة»، يتحقق فيها التوزيع العادل للثروة، وتعميم العدالة الاجتماعية، وتؤصل المساواة، وهذا الحلم المشروع مازال مطروحاً حتى اليوم.
حاول الكتاب قراءة بعض الدوافع ومسببات التكوين، ثم التعريف الموجز بالحركات محل البحث والدراسة، والوقوف على بعض عوامل الفشل والتراجع الداخلية والخارجية، وبعدها استعراض بعض الآثار والنتائج والمشتركات.
من أهم دوافع ومسببات التكوين:
أ – الاستبداد السياسي والانغلاق الاقتصادي.
ب – الحرمان والإقصاء الاجتماعي.
ج – الاستعمار البريطاني الخاص.
د – هجرة الشباب للعمل والتعلم.
هـ – انتشار التيار اليساري في أوساط النخب وشباب الجامعات العربية.
و – الوضع الدولي الملائم لتمويل أي صراع، وتحويله إلى مصلحة أحد معسكري الحرب الباردة.
ز – ظهور شخصيات حكم إقليمية تقدمت بمجتمعاتها خطوة إلى الأمام.
ح – تجريب صدقية مداخل تقليدية للتغيير وعدم فاعليتها (كالإمامة).
ط – غياب قنوات الحوار ومؤسسات التفاوض بين طرفي الصراع: السلطة والحركات الناشئة.
كما رصد الكتاب في فصله الأول أهم الحركات السياسية في النضال الوطني العُماني، التي تشكلت إبان المد اليساري في المنطقة في الفترة الممتدة من منتصف الستينات وحتى مطلع تسعينات القرن العشرين.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليست جميع الحركات التي سيأتي عليها الشرح تنطبق عليها شروط الحركة اليسارية، وإنما نوردها هنا، لأهميتها التاريخية وضروراتها الاجتماعية، التي شكلت إلى حد ما حواضن رئيسة لميلاد الحركة اليسارية في البلاد، ولا سيما إذا ما علمنا بأن القواعد الشعبية الأوسع لهذه الحركات لم تكن مكترثة بالتسميات ولا بالفواصل الدقيقة للأفكار والاشتراطات اليسارية، بقدر إيمانها بأهمية وضرورة النضال، من أجل وطن الحرية والعدالة والعيش الكريم.
إن الترتيب الوارد هنا يأتي وفق التسلسل الزمني، لتكون هذه الحركات، مع أهمية الإشارة إلى أن أغلب هذه الحركات هي لتنظيم واحد، تغيَّرت مسمياته وفق ظروف الاندماج، وبسبب إعادة قراءة خريطة التحالفات والتشبيك الحركي في ميدان النضال الوطني.
والتي ضمنها:
– حركة القوميين العرب (فرع عُمان).
ـ مكتب تحرير الخليج العربي وجنوب الجزيزة.
– الجمعية الخيرية الظفارية.
– منظمة الجنود الظفاريين.
– جبهة تحرير ظفار.
– الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل.
– الحركة الثورية الشعبية في عُمان والخليج العربي.
– الجبهة الوطنية الديمقراطية لتحرير عُمان والخليج العربي
– الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي.
– الجبهة الشعبية لتحرير عُمان.
– الجبهة الشعبية الديمقراطية العُمانية.
– حزب البعث العربي الاشتراكي.
– جبهة التحرير العربية في عُمان.
– حزب العمل العربي في عُمان.
– منظمة المرأة العُمانية.
– اللجنة الوطنية لعمال عُمان.
يبيّن الكتاب في فصله الأول كذلك عوامل فشل هذه الحركات في أداء مهامها التنظيمية، وتحقيق أهدافها النضالية، وفي انكماشها التاريخي عن استمرار نشاطها السياسي وتطوره على مستوى الحراك الوطني، فمنها الداخلي: كانت قياداتها وكوادرها السبب الرئيسي فيه، ومنها الخارجي: لم تكن تملك إزاءه حولاً ولا قوة، وبخاصة ذاك المتعلق بطبيعة النظام العالمي وتحوُّلاته المتسارعة، ومنها الذاتي ومنها الموضوعي.
من أهم هذه الأسباب الداخلية:
– البنية الاجتماعية المرتكزة على الولاءات القبلية والعشائرية والمذهبية.
– غرابة أفكار الماركسية عن المجتمع، كالمادية التاريخية، وريادة الطبقة العاملة، وصراع الطبقات والاشتراكية، واصطدامها بالتقاليد.
– الخلافات الشخصية.
– القرارات المتسارعة، وغياب الفكر التحليلي النقدي بين أوساط القيادات.
– عدم قراءة التحوُّل السياسي بقدوم سلطان جديد.
– الخلافات الفكرية الداخلية والحدّة فيها.
– ظهور النفط، وتركز الثروة في يد الأنظمة واحتكارها إياه.
– التصفيات الجسدية التي مورست في حق رفاق النضال.
– اشتغال النظام الجديد على فكرة «كسب القلوب والعقول».
– تجريم تشكيل الأحزاب قانونياً.
في المقابل، رفدت تلك الأسباب الداخلية، أسبابُ خارجية لا تقل أهمية، ساهمت في إفشال مسار الحركات اليسارية في عُمان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– هزيمة 1967.
– عدم قراءة الانسحاب البريطاني من مناطق شرق السويس على نحوٍ واقعي.
– تناقص الدعم الصيني – السوفييتي.
– الانقسامات الفكرية الحادة في تنظيمات اليسار العربي.
– تزايد الدعم الخارجي (البريطاني – الإيراني – الأردني) للنظام الجديد.
– ظلال الحرب الباردة.
– الثورة الإيرانية وتعزز التيارات الإسلامية.
– الحرب العراقية – الإيرانية.
– انهيار الاتحاد السوفييتي.
– غياب النموذج اليساري الناجح في الحكم على المستوى العربي.
إن حراكاً سياسياً بهذا الزخم والكثافة في الأحداث والزمن والشخصيات، لا يمكنه إلا أن يقدّم نتائج لها قيمتها اللافتة، وجذورها العميقة لبناء الدولة الحديثة التي قامت عقبها، وبخاصة أن عُمان كانت تشكل للكثيرين، في ذلك الوقت على الأقل، النقطة المحورية للحركة المعادية للاستعمار في شبه الجزيرة العربية، بعدما كانت أكثر أجزاء الجزيرة تخلفاً وسكوناً. بيد أنه كان واضحاً وكثيفاً حرص الإعلام الرسمي الموجّه على تغييب تلك النتائج، ومسح أي علاقة له بما حدث، وهو تصرُّف غير مستغرب، فذلك ديدن المنتصر دائماً، وحيلته الأبرز على التاريخ.
إن ذلك الحراك الثوري الثري والمؤلم معاً، سيظل هناك محفوراً في كل تفاصيل اللاوعي الجمعي العُماني: في الإدارة والحكم، وفي الاجتماعي والسياسي والثقافي، مهما تغاضينا عنه، أو طُمست معالمه، وفق اجتهادات شخصيات في السلطة، لا تريد للأجيال الحالية تذكيرها بدورها، أو تقييمها، للوصول إلى الإيمان بفكرة الوطنية، التي لا تمر إلا عبر الاعترافات الصادقة بالدور، والمهام، والدماء التي قدمت للوطن الحلم، وللوطنية المتوخاة في الممارسات والسلوك.
لأجل ذلك، أرى من الأهمية إيراد بعض نتائج ذاك الحراك، للمستقبل، لأن هذا المستقبل لن يمر تحققه إلا من بوابة معرفة الماضي، بكل ما فيه، خيباته قبل انتصاراته، وانكساراته قبل إنجازاته.
من تلك الآثار والنتائج التي حققتها تلك الحركات ما يأتي:
– التخلص من حكم السلطان سعيد بن تيمور، وإعادة الثقة الوطنية في التغيير.
– إعادة تشكيل الوعي الوطني.
– تأكيد الوحدة الوطنية وتعميق عروبة عُمان.
قراءة في نشاط الحركات الإسلامية العُمانية
ويسلط الفصل الثاني من الكتاب الضوء على بعض الحركات الإسلامية العُمانية التي تعالقت مع السلطة في العقود الأربعة الماضية، حيث يؤكد الباحث أنه منذ القرن الثاني للهجرة، الثامن الميلادي، وعُمان تعيش حراكاً دؤوبا – محوره الدين وفهم أبعاده وعمقه – للبحث عن الصيغة المناسبة لاستقرارها ونمائها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
إن دراسة موضوع الحركات الإسلامية في عُمان من عام 1970 وحتى 2010م، في هذا الوقت، لها دوافع موضوعية شجعت الباحث على الاقتراب منه، رغم التحديات الكثيرة والصعاب المتنوعة التي اكتنفت هذا النوع من الموضوعات الشائكة والإشكالية في مجتمع محافظ للسلطة المركزية فيه الكلمة الفصل، وللشخصية الفردية تحفظاتها المعقدة. أضف إلى ذلك، ندرة المصادر المكتوبة والمعتمدة لأي باحث موضوعي حريص على سبر أغوار ظواهر كهذه، وتتبع تأثيراتها في الانسان والمجتمع.
تشكلت الحركات الإسلامية في عُمان وللحكومة الكلمة الأولى والفضل في كل شأن من شؤون الحياة والإنسان في البلاد، كما وجدت طريقها للتأسيس ذاتياً في ظروف صعبة سعت الحكومة خلالها بكل أجهزتها إلى تغييب التيارات السياسية، يسارية كانت أم يمينية، وحرصت على عدم السماح بتكوّن أحزاب سياسية بشكل طبيعي، بل عملت على التخويف منها، وتجريم تشكيلها، كما أن مفهوم مؤسسات المجتمع المدني، بشكلها الحديث، لم يكن قد تبلور اجتماعياً بعد.
ويسلط الكتاب الضوء أيضاً على ثلاث حركات إسلامية، وفق التسلسل الزمني لظهورها، هي: الشيعة الشيرازية، تنظيم الإخوان المسلمين، والتنظيم الإباضي، إذ تشكّل هذه الحركات أبرز التنظيمات الإسلامية التي أطلّت برأسها على المشهد السياسي العُماني في السنوات الأربعين الماضية.
ويحدد الباحث العوامل المشتركة التي أثرت بشكل واضح في نشاطات هذه التنظيمات، سواء على مستوى النشأة والتأسيس، والمنطلقات الفكرية والسياسية، أو على مستوى البنية التنظيمية والمؤسسية، وأخيراً على جدلية العلاقة مع السلطة المركزية، وهي يمكن إيجازها في الآتي: الخوف على المذهب، تأثير العامل الخارجي، بطء تفاعل المجتمع مع الفكرة الحركية، غياب الأدبيات المكتوبة والسرية المعطلة، مع حدة تعامل السلطة المركزية في مواجهتها.