كتب محمد جاد:
افتتح «استديو الأربعاء» بنادي الكويت للسينما، أول نشاطاته بفيلم «شكاوى الفلاح الفصيح» لشادي عبدالسلام.. ورغم أن الاختيار جاء بمناسبة مرور 27 عاما على وفاة مخرج الفيلم، فإنها في جميع الأحوال بداية موفقة، ليكون هذا النشاط داعماً لتعميق الوعي بالفن السينمائي الرفيع، وخالقاً مناخاً سينمائياً متميزاً، من خلال دقة اختيار الأفلام المعروضة، إضافة إلى الندوة التي تلي الفيلم، لتوضح وتشرح جمالياته ولغته السينمائية.
أعمال شادي عبدالسلام تتطلب بالضرورة وعياً حاداً بمفردات فن السينما، إضافة إلى الأفكار الفلسفية العميقة التي يناقشها في أعماله، متخذاً من الحضارة المصرية القديمة أرضاً وشخوصاً ممتدة عبر الزمن، لن تختلف طالما ارتبطت بفكر الإنسان ومسألة وجوده.
خلود الأفكار ومشكلة القيم
حاول شادي عبدالسلام واستطاع أن ينقل أفكاراً إنسانية حملتها حضارة عظمى، كالحضارة المصرية، وجعلها تتنفس في الحاضر، بخلاف الأعمال الغربية التجارية التي لم ترَ من هذه الحضارة سوى نقوش مُبهمة، وسحر أسطوري، لا ينتمي للحقيقة أو الواقع، فالذي أعطى لهذه الحضارة خلودها ليست آثارها، فهذه الآثار والشواهد مجرَّد نتيجة لفكر عظيم، فالذي لفت الرجل هو قيمة هذا الفكر، وتناقله عبر أجيال، وإفلاته من الزمن، وهذا هو سر خلوده.. ففيلم «المومياء» أشهر أفلام شادي عبدالسلام، ناقش الوضع الاجتماعي لقبيلة تعتاش على سرقة آثار الموتى، وبيعها – فكرة التعيّش من الآثار، من دون فهم مغزى وجودها – حوّل شادي الأمر إلى تجارة أموات، وهي أشياء محرّمة، بغض النظر عن التجريم القانوني، أصبح المصري اليوم يحياها من دون وعي – تم إنتاج الفيلم عام 67 – ليقول «ونيس»، بطل الفيلم، جملته الشهيرة، التي جعلته يكتشف حقيقة أسرته وقبيلته، وسبيل حياتهم الوحيد، وهو تدنيس حُرمة الأموات، بقوله “هل هذا عيشنا؟”. فالابتعاد عن القيم هو سبب المأساة لهذه القبيلة، وكشف لواقعها المدنس.
البحث عن العدالة
«شكاوى الفلاح الفصيح» في الأصل كانت عبارات مدونة فوق بردية، عبارات نطق بها فلاح مصري تمَّت سرقته، وهو في الطريق لبيع غلاله. لم يجد الفلاح سوى الذهاب إلى بيت الحاكم، والوقوف أمام بابه يبثه شكاواه، وأعجب الحاكم ببلاغة الفلاح وفصاحته، وأجلس الكَتَبة – هكذا صوّر شادي الأمر – داخل جدران القصر، يدونون ما يرتله الفلاح على مسامعه.
الأمر هنا يتماس مع السلطة مباشرة، والتي يجب عليها أن تحقق العدالة، لأن وجود السلطة مرهون بتحقيق العدل، بالفعل ينتهي الفيلم بإعادة ما تمَّت سرقته للفلاح، وعقاب السارقين، إلا أن الأمر الأعمق يتجلى في العلاقة بين السلطة والكلمة، وأي منهما أقوى على البقاء والخلود.. وبالمنطق الفني نجد أن الكلمة هنا لها التأثير الأقوى، حتى وإن كان صاحبها (الفلاح) الأضعف، بنية ووضعاً اجتماعياً، بخلاف رجال الحاكم الأشداء.
بالطبع لم ولن تكون الكلمة في جميع الأحوال هي صاحبة اليد العليا، ولكن الفيلم يبحث في ما يجب أن يكون – وقد كان في حكاية الفلاح الفصيح – لا في ما هو كائن.
ففكرة تحقيق العدل، هي الفكرة الأساسية للعمل ككل، وربما تاريخ العدل في الحضارة المصرية تنفس معها بداياتها، وقد كانت «ماعت» آلهة العدالة من أشهر آلهة المصريين القدماء.
الإيقاع الزمني
يصوغ شادي عبدالسلام أعماله وفق إيقاع زمني مُتخيّل، فلم يرَ أحد كيف كان يعيش قدماء المصريين، لكنه استوحى إيقاع الحركة ونطق الكلمات من مهابة هذه الحضارة، وضخامة وثبات أبنيتها، كالتماثيل المصمتة، والأعمدة الضخمة، بخلاف حضارة اليونان، على سبيل المثال، التي توحي بالحركة الأسرع، وهو ما يتمثل في المنحوتات الجدارية وتماثيل الآلهة والشخصيات الشهيرة، فالحضارة المصرية في أساسها ترتبط بالعبادة، وكل صورها ما هي إلا تعبير عن الآلهة المُهابة من الجميع، حتى الرقصات التعبيرية المرسومة فوق الجدران، وصولاً إلى تمثيل واقعة حرب أو انتصار ملك على خصومة، في معظمها حركات تميل إلى الثبات، ومنه استمد المخرج التعبير عن هذا الجو العام بالحركة البطيئة، والكادرات الثابتة، الأشبه بالفوتوغرافية، إضافة إلى الانتقال بين اللقطات عن طريق المزج أو القطع الناعم (القطع المتدرج للقطات)، لتأصيل حالة الهدوء والاستقرار، التي حاولت هذه الحضارة التعبير عنه طوال تاريخها، والتي استمدتها من طبيعة الأرض التي نشأت فوقها، فهي حضارة زراعية، تعرف أن حياتها في الاستقرار والانتظار في ما تقرره الآلهة أو الإله أو الحاكم المرهون وجوده، وبالتالي وجود هذا الاستقرار بتحقيقه للعدل أولاً وأخيراً.