
كتب محمد عبدالرحيم:
يعد فيلم «مَن قتَل كنيدي؟» بحثا توثيقيا بالصورة عن أسباب ودوافع اغتيال جون كنيدي، فالأمر تعدّى الكشف عن القاتل، إلى أسباب الاغتيال نفسها.
وبذلك، تخطى النظرة القاصرة للعديد من الأفلام التي دارت حول اغتيال الشخصيات الشهيرة، إلى كشف فساد المؤسسة الأميركية بالكامل، وعلى رأسها جهاز المخابرات الأميركي. ليصل أوليفر ستون بفيلمه إلى نتائج أشبه بنتائج التحقيقات الجنائية.. بأن الجاني الرسمي للحادث لم يكن هو، ولكن هناك عدة جهات اتفقت على التخلص من الرئيس الأميركي.
الواقع والمُتخيّل
والمخرج في سبيل ذلك أعاد تفكيك الحدث/الاغتيال، وتركيبه من جديد، مستخدماً النهج التوثيقي لعرض وجهة نظره في القضية/الفيلم.
فوضع الصورة الأرشيفية مقابل الصورة المتخيّلة، وفق رؤيته، في محاولة لاستنتاج الحقائق.
كما أعاد رسم شخصية المحقق، الذي قام بالتحقيق في القضية، فهو شخصية حقيقية، ولكن أضاف إليها ستون خيالها ورؤيتها، لتحمل بذلك رؤية صانع الفيلم حول القضية، الذي يُشير في النهاية إلى أن عملية الاغتيال قد تم التخطيط لها بدقة كبيرة، ما يعني أن خلفها قوة كبيرة تملك قدرة وقابلية كبيرتين على التخطيط، فلا يستطيع شخص بمفرده القيام بذلك.
من ناحية أخرى، لجأ ستون إلى بناء فيلمي أشبه بالتحقيق الكبير، حيث اعتمد على التسجيلات الصوتية والأرشيفية، واللقطات الحقيقية، والمقابلات الشخصية، واستعان بالممثلين، لإعادة سرد أحداث الحادث، كل من وجهة نظره، وهو ما يُقرّب الأمر أكثر من الشكل الفيلمي للدوكيودراما.
الشخصيات
اعتمد الفيلم على شخصية المحقق جيم جاريسون، الذي قام بالتحقيق في حادث الاغتيال. وأصدر بعد ذلك كتاباً بعنوان «محاكمة المغتالين»، اعتمد عليه أوليفر ستون في كتابة سيناريو الفيلم وقام بالدور كيفين كوستنر.
فشخصية المحقق إذن حقيقية، أعاد تجسيدها الفيلم، وبالمقابل أصبحت هذه الشخصية – بما أننا في فيلم اتخذ شكل التحقيق – هي التي تقود عملية السرد، وأصبح لها المبرر لأن تقود الصراع الدرامي، بين أحداث وقعت في الحقيقة، وتحاول نفي كل الحقائق، ورؤية المحقق/الفيلم في المقابلة بين هذه الأحداث ووجهة نظره التي تأكدت من خلال خياله وإعادة المشاهد الحقيقية، وفق هذا الخيال.
شخصية أوزوالد الجاني الرسمي، والذي اغتيل بعد ذلك، يقوم بتجسيدها ممثل آخر هو جاري أولدمان، الذي يُعاد التحقيق معه في الفيلم، والذي يسرد الحكاية من وجهة نظره، مع مقابلة ذلك بحكايات الشهود الآخرين، لبيان هشاشة وجهة النظر هذه. إضافة إلى استحضار أوزوالد الحقيقي في لقطات أرشيفية، كلحظات القبض عليه، ولقطات من تصريحاته للصحافة.
فالأمر هنا لا يجعل المشاهد يتماهى مع ما هو معروض أمامه، ولكنه يعرف أن المسألة هي إعادة طرح للقضية، وتأكيد لوجهة نظر جديدة حولها. كسر الإيهام هذا، والذي استمر طوال الفيلم ما بين التناقض بين ما حدث وتفسيره من وجهة نظر صانع الفيلم يهدف إلى خلق رؤية نقدية لدى المشاهد، في كل ما رآه من قبل على شاشات التلفزيون، وقرأه في الصحف.
من ناحية أخرى، أعاد ستون تمثيل الوقائع من خلال ممثلين، قاموا بأداء أدوار شخصيات حقيقية كان لها صِلة بالموضوع.
وأضاف صفات شخصية لعدة شخصيات لتتجمع في شخصية واحدة، تخدم الهدف الدرامي في عرضها، فنحن بصدد فيلم في النهاية.
فعلى سبيل المثال، لم تكن شخصية «ويلي أوكيف» مثلي العلاقات، شخصية حقيقية، لكنها استوحيت من أربعة من الشهود، الذين استعان بهم جاريسون. (راجع.. نورمان كيجان. مأزق البطل الوحيد/سينما أوليفر ستون. ترجمة أمير العمري. المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة، عدد 229، 2000. ص 203 وما بعدها).
النهج التوثيقي
بدأ المخرج كتابة السيناريو اعتماداً على كتاب «محاكمة المغتالين» لجيم جاريسو عام 1988، وكتاب آخر بعنوان «نيران متقاطعة» لجيم مارس. كما بدأ البحث عن ملابس تلك الفترة، وطريقة تصفيف الشعر والمظهر الخارجي والداخلي لكل المواقع التي دارت فيها الأحداث، بحيث يمكن مطابقتها تماماً، إضافة إلى الاستعانة بنسخ من الصور والأفلام التي صورت كل الشخصيات التي لها علاقة بالموضوع.
فهو بذلك يريد إعادة إنتاج الحدث، وفق وجهة نظره، ويتوخى الدقة في نقل تلك الفترة، في مظهرها الشكلي الحقيقي، ولكن السرد نفسه يقوم على الخيال، أو الافتراض، فالأمر لا يعود إذن لحقيقة وخيال، لكنه نهجاً أسلوبياً أراده صانع الفيلم لعرض رؤيته، فهناك تصوير للقطات حقيقة، وأخرى لم تحدث/خيالية تماماً.
يتضح ذلك من المشهد الافتتاحي للفيلم الذي يعتمد نهجه التوثيقي، من خلال وجهة نظر خيالية/افتراضية، ستصبح بعد ذلك هي نفسها وجهة نظر المحقق جاريسون، أو بالأصح وجهة نظر المخرج.
فهناك لقطات أرشيفية في البداية مثل سقوط القنابل، خطاب آيزنهاور الأخير، كنيدي يقسم اليمين، كاسترو ومزارع الموز في كوبا، مسؤولون في الـ«سي آي إيه»، كنيدي يقرر الانسحاب من فيتنام، مومس تسقط في طريق ريفي، كنيدي يهبط في دالاس، المرأة في المستشفى تصرخ محذرة.. إنهم سيقتلون كنيدي، موكب كنيدي، أصوات طلقات الرصاص، سرب من الحمام يطير. موت المرأة هنا معادل لفشل جاريسون في الوصول إلى الحقيقة.
البناء السردي
اعتمد المخرج في عملية السرد على المقابلة بين إعادة خلق الأحداث التاريخية، بناء على رؤية المحقق جاريسون أو افتراضاته، وبين اللقطات التسجيلية والأرشيفية عن الحدث نفسه والفترة نفسها، وذلك لإعطاء مصداقية أكثر للقطات الخيالية، والتي تتناقض مع اللقطات الحقيقية التي تم اعتمادها وتقديمها للرأي العام، على أنها الحقيقة المؤكدة.
كما تم تصوير حادث الاغتيال وفق وجهة نظر الشخصيات المحقق/أوزوالد/ الشهود/المحللين الرسميين، وهو ما يُشبه حالة راشومون على سبيل المثال، للتشكيك في وجود رؤية حقيقية من الأساس، فالأمر يتعدّى كل مَن شاهد الجريمة أو حقق بها، بل إنه يتعدّى المتهم الذي من المفترض أنه قام بها.
ومن خلال المنهج التوثيقي لأحداث الفيلم، تم البناء السردي في شكل تحقيق كبير، يسمح بكشف التناقضات أكثر حول القضية بتعدد وجهات النظر، وتناقض الصورة والشريط الصوتي كالمقاطع الصوتية لكل من أوزوالد وليندون جونسون، التي تتنافي واللقطات المعروضة على الشاشة.
هذا الشكل أيضاً أتاح لصانع الفيلم حرية التحرك الحر في الزمن، سواء عن طريق الفلاش باك، أو الاستشرافات (تقديم الحدث أولاً، ثم تفسيره في مشاهد لاحقة)، لينتهي الفيلم بتلميحات صانعه بأن أجهزة مخابرات عدة دول وعصابات يمينية سريّة، هي التي خططت لقتل كنيدي، حتى يتولى ليندون جونسون السلطة.