
يمثل محمد سلمان غانم حالة شبه نادرة في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الكويت، فهو على الرغم من مرور سنوات طويلة، بل وعقود، فإنه ظل متمسكاً بأيديولوجيته وعقيدته الماركسية التي بنى عليها جميع أفكاره، حتى في كتاباته التي اتجهت نحو الدين، في إطار محاولته لإعادة قراءة تاريخ الإسلام، وفهم الرسالة المحمدية.
ولعل كتابه «الله والجماعة»، الذي صدر العام 1997، وما أثاره من ضجة كبيرة في الكويت، وخصوصاً بين أوساط «الدينيويين»، وهو الوصف الذي أطلقه على العناصر الدينية التي تستخدم الدين لمصالح دنيوية، الذين ثارت ثورتهم واستنفروا جميع قواهم، حتى أجبرت وزارتا الإعلام والأوقاف إلى رفع دعاوى قضائية عليه، ومارست وزارة الإعلام سلطتها الرقابية في منع الكتاب.
لن ندخل هنا في تفاصيل هذه المعركة، أو حتى في كتابات محمد سلمان غانم في السنوات الأخيرة حول الدين والإسلام، بل سنتوقف أمام حالة ماركسية في فهم واقع الاقتصاد الكويتي، وتحديداً عبر كتاب «الاقتصاد الكويتي: دراسات في الاقتصاد الطفيلي» (1986)، وكتابه «الاقتصاد الكويتي.. إلى أين؟ خواطر وتساؤلات» (1995).. وأخيراً كتابه «الاقتصاد الكويتي طفيلية واحتلال» (2009).
وعلى الرغم من أن كتابه الأول مرَّ عليه أكثر من 25 عاماً على صدوره، مع العلم بأنه كان عبارة عن مقالات ودراسات متفرّقة نشرت في أوقات سابقة قبل سنة النشر، فإنه لا يزال يعبّر بصورة، أو بأخرى، عن هموم وقضايا وتطلعات لاتزال حاضرة حتى وقتنا الحالي.
فمن الواضح أنه لا شيء تغيَّر، فالمفاهيم والبرامج ظلت على حالها، كما هي، والخطط والتحديثات الاقتصادية لم تستفد منها سوى «فئة صغيرة» استأثرت بكل شيء، ولم تترك شيئاً للسواد الأعظم، الذي ظل يبحث عن شيء ليسد احتياجاته.
وطني الكويت
«في هذه المرحلة من التطوَّر، فإننا بحاجة لمن يحفظ ثروة البلد داخل البلد، حتى يصدق عندما ينشد:
وطني الكويت سلمت للمجد
وعلى جبينك طالع السعد
أما الشغيلة والكادحون، فيمكن أن يعزوا أنفسهم بترديد:
وطني الكويت سلمت للصفر
وعلى جبينك طالع الفقر
وما بين وبين يمكن أن يرددوا:
طالع السعد
طالع الفقر
فالغنى يولد الفقر، وهذا قانون تراكم رأس المال، إنه وارد في نشيدنا الوطني، وما لم نعثر عليها ونقذفها في الهيئات الآمرة والفاتية والخيرية، حيث تصاغ طلاسم التعويذات، فإن مصيرنا سيكون مصير الصومال.. وبئس المصير!».
بهذه الصورة المختلطة والمركبة، يُعبّر محمد سلمان غانم عن رؤيته الخاصة حول الاقتصاد الكويتي، ومساره واتجاهاته، بل والفئات المستفيدة منه، والمعدومة أيضاً.
نكوص مجتمعي
لم يهدأ حال المجتمع الكويتي منذ سنوات طويلة، حيث مرَّ بأزمات متتالية على جميع الأصعدة والمستويات، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، ومع استمرار هذه الأزمات، وتحديداً الاقتصادية منها، بدأ المجتمع الكويتي يعيش حالة من الإنهاك والتذمر، فمن أزمة سوق الأوراق المالية إلى أزمة العقار والقطاع التجاري إلى أزمة البنوك وغيرها من الأزمات.
واجتماعياً، يرى محمد سلمان غانم أننا «نشهد عملية نكوص وانكفاء نحو الأيديولوجيات الغيبية والأفكار الخرافية والظلامية المتسترة بالدين، والأخطر من ذلك أن هذا الاتجاه قد تسرَّب إلى مناهج التربية والتعليم ووسائل الإعلام المختلفة، وتتبناه القوى الاجتماعية المسيطرة، والتي فقدت علاقتها بالتقدُّم والتحرر الاجتماعي، وقد يتحوَّل هذا الاتجاه مرة أخرى إلى هجوم شرس على ما تبقى من مظاهر المؤسسات الديمقراطية.. ويستشري الفساد الإداري والسياسي، فالأجهزة الحكومية والمؤسسات المختلفة التي أصبحت مصدراً للتنفيع والسطو على المال العام».
قطاعات اقتصادية
يُقسّم محمد سلمان غانم القطاعات الاقتصادية في الكويت إلى 5 مجموعات رئيسة، وهي التي بنى عليها تقييمه وتحليله للواقع الاقتصادي:
1 – القطاع النفطي: والذي لا تنحصر أهميته في المساهمة في الاقتصاد القومي فقط، وإنما في اعتماد نمو القطاعات الأخرى عليه، من خلال علاقة تمويلية، فإيرادات النفط – وليس صناعة النفط – ترتب عليها نمو واسع للقطاعات الخدمية والاجتماعية، وكذلك قطاعات البنية الأساسية والبناء والإنشاء.
2 – القطاعات الإنتاجية: وتشمل قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، وهي من أقل القطاعات تطوراً، فضلاً عن مستوى الإنتاج المتدني.
كما يدخل ضمن القطاعات الإنتاجية، قطاع الصناعة، بما يشمله من المنتجات البترولية المكررة، والأسمدة وبعض البتروكيماويات الأخرى، كما يشمل صناعة المواد الغذائية وغيرها.
3 – قطاعات رأس المال الاجتماعي: وتشمل قطاعات الكهرباء والمياه والغاز والنقل والجسور والطرق والمطار والإنشاءات والبناء وغيرها. بمعنى آخر، قطاعات البنية الأساسية، وتتسم بأنها منتجة لسلع وخدمات لا بد من توفيرها محليا، كالسكن والطرق، كما أن الكهرباء والماء من الضروريات التي تتعلق بالأمن الاجتماعي، كما أن هذا القطاع يمثل أحد المقومات لتوسع النشاطات الانتاجية.
4 – قطاعات التجارة والعقارات والمال والأعمال: وهو من أكثر القطاعات تأثراً بالتطورات الاقتصادية والأحداث السياسية وتقلبات سعر الصرف والفائدة، وبالتالي بالأزمات الدورية.
5 – قطاعات الإدارة العامة والدفاع والخدمات الاجتماعية الشخصية: وهو أحد القطاعات المتضخمة في الدولة، نتيجة سياسات التوظيف والخدمات المجانية، سواء في التعليم والصحة.. وغيرهما من الخدمات، حيث يضخ أكبر مبلغ من إيرادات الدولة في هذا القطاع على شكل رواتب وأجور أو خدمات عامة.
أهداف ونتائج
يتطرَّق محمد سلمان غانم إلى أهداف ونتائج السياسات الاقتصادية التي أدَّت- من وجهة نظره- إلى «هذا الوضع البائس الراهن» في :
1 – امتصاص فائض الثروة الوطنية، وتدويرها في مؤسسات، كالبنوك والبورصات العالمية، أو وضعها تحت تصرُّف شركات ومؤسسات دولية النشاط، وحصيلة ذلك، هو ما نراه الآن من فائض مالي إلى عجز، ومن الإقراض وتصدير رأس المال النقدي إلى الخارج إلى الاقتراض والاستدانة من المؤسسات والبنوك المالية في الغرب الرأسمالي.
2 – عدم تطوُّر قوة العمل الوطنية وإفقارها من الخبرة والممارسة واكتساب المهارات اللازمة، سواء في ميدان العمل والإنتاج، فالأيدي «الفنية الكويتية الوطنية والنزيهة» تُحارب في المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، ويُوجه نشاطها لخدمة «الطبقة الملاكية» الكبيرة، لتسهيل تمرير التجاوزات والرشاوى والفساد، بل والسرقات المباشرة من أموال هذه المؤسسات.
ويذهب غانم إلى حقيقة مفادها أن «جميع مجالس إدارات المؤسسات المالية الخاصة والحكومية تسيطر عليها الطغمة المالية الإقطاعية ذاتها، ولكن فيما نجد الخاص منها يحقق الأرباح العالية سنة بعد أخرى، نجد المؤسسات الحكومية التي تدير المال العام (أموال الشعب) عادة ما تخسر وتتعرض للنهب».
3 – إن ميدان العمل الإنتاجي الحقيقي هو القطاع النفطي، فهو القادر على تمويل تصنيعه ذاتياً، إلا أن القدر الرأسمالي وضعه أداة لا لنهب الشعوب وفرض السيطرة الأجنبية عليها.
ويواصل «السياسة الاقتصادية التي سارت عليها الكويت قائمة على تسخير هذا المورد (النفط) أساساً لتركيم الملكية والمال، بدلاً من الاستثمار وتركيم وسائل الإنتاج وتطوير القوى المنتجة، كما استخدمته الزمر الاجتماعية المسيطرة، اقتصادياً وسياسياً، أداة للترويض السياسي وصرف قوة العمل الوطنية عن قدراتها وخبراتها الإنتاجية والفنية».
لقد تهيأت أمام المجتمع الكويتي فرصة تاريخية قلما تتوافر في المجتمعات، وهي اكتشاف النفط واستخراجه، والذي يُمثل أهم مادة ووسيلة للعمل والإنتاج، ولكن المفارقة التاريخية أن هذا الأمر تحقق في «الزمن الرديء» في عصر «الاستدمار» (الاستعمار) الذي فرض التخلف والجمود ودمَّر مجالات وأنشطة العمل الحرفي وقطع عليه طرق وفرص التطور والنمو، وحوَّل النفط إلى وقود لصناعاته وخامات لمنتجاته، وما حصلنا عليه من إيرادات تم استخدامها للإنفاق الاستهلاكي والترفيه و«تركيم» الملكيات ورؤوس الأموال بيد القلة.
ويرى غانم أن «النظام» منذ البداية حدد هدفه الرئيسي من استغلال الثروة النفطية باتجاه التملك لا العمل، كما أنه مصدر للإنفاق لا الإنتاج، ويشير في الإطار ذاته إلى أن أكثر من نصف الإنفاق الحكومي يذهب للتنفيع والتربيح لصالح «الزمر الاجتماعية» من المستقوين، اقتصادياً وسياسياً، وهم أيضاً في طليعة المستفيدين من الخدمات العامة، فالطرق والكهرباء والمياه والمواصلات تؤدّي إلى ارتفاع قيمة أملاكهم من الأراضي والعقارات باستمرار، وإلى زيادة نشاطات مؤسساتهم التجارية، والمالية «الطفيلية»، من دون أن يكلفهم ذلك شيئاً.
في مفهوم الخصخصة
يمثل موضوع «الخصخصة» أهمية كبيرة للاقتصاديين، وخصوصا عندما يتعلق ذلك بمحاولات السيطرة والاستملاك.
يقدّم محمد سلمان غانم تعريفاً محدداً للخصخصة التي تعني «تحويل ما هو عام أو جماعي من ممتلكات أو أموال أو منشآت إلى ملكية أو ملكيات خاصة لأفراد قد يكونون شريحة أو فئة أو طبقة اجتماعية معينة»، ومع التطوُّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ذهبت الخصخصة إلى «تملك المنشآت والمصالح التي أقامتها الدولة من الموارد الاجتماعية العامة، في سياق عملية التطور الرأسمالي نفسه»، وهو ما يعني من وجهة نظره «تعميق وترسيخ للتطور الرأسمالي، وتحويله إلى نظام للسيطرة والهيمنة الاقتصادية والسياسية للطبقة الملاكية الرأسمالية وشرائحها العليا (القلة الفرادية) على الأكثرية الاجتماعية التي تتسع وتتجرَّد من الملكية باستمرار، وتتحوَّل إلى عمالة جماعية مأجورة».
ويتساءل غانم في هذا الإطار «إذا كان المقصود تخصيص مشاريع ومؤسسات اقتصادية مملوكة للدولة، وإذا كانت أموال الدولة ثروة وطنية ومالاً عاماً، فلماذا لا نأخذ بالتعميم لا التخصيص، أي أن تصدر الدولة أسهماً بقيمة رأسمال الشركة أو المنشأة العامة وتوزعها بالتساوي على المواطنين؟».
ويتطرَّق معرض إجابته عن هذا التساؤل إلى حقائق محددة ومعينة، من خلال مثال حول دور الحكومة في إنشاء الصناديق الاستثمارية بقيم ومبالغ كبيرة، والتي عادة ما تكون لضخ الأموال في البورصة لشراء أسهم الشركات خاسرة، ومن ثم بيعها مجدداً، أو بيع المؤسسات والشركات الحكومية الرابحة، وهو ما يعني تحويلاً للمال العام إلى القطاع الخاص»، متسائلاً مرة أخرى «.. ومن الرابح: المواطنون أم كبار الرأسماليين الذين سيستحوذون على نصيب الأسد من هذه الأسهم؟ المشكلة أن من يدر رأس المال الكبير هو نفسه من يقبض على المال العام».
المسار الاقتصادي
سار التطوُّر الاقتصادي في الكويت منذ بداية الحقبة النفطية على مبادئ وأساسيات النظرية الاقتصادية البرجوازية بالشكل الذي تطوَّرت فيه في الغرب الرأسمالي. وكان ذلك أمراً طبيعياً، باعتبار أن الكويت تبنت أسلوب التطور الرأسمالي، وزودت بنظام الحرية الاقتصادية، وبصورة أدق حرية السوق.
وتعد النظرية الاقتصادية البرجوازية، أن المنتجين هم الرأسماليون، فيما تُعد الطبقة المنتجة الحقيقية، سواء لوسائل الاستهلاك (سلع خدمات) أو لوسائل الإنتاج (آلات ومعدات) مجرد مأجورين، ويُصنفون كمستهلكين فقط.
فإذا كان الرأسماليون هم المنتجون، فإن مدخرات المجتمع أو ما يفيض من الاستهلاك (وهو عندما فائض الريع النفطي) يجب ضخه إلى هذه الفئة المحدودة اجتماعياً، حتى تتولى استثماره، وبالتالي تطوير وتنمية الاقتصاد الوطني، وقد تم ذلك بشتى الطرق: الاستملاكات والتنفيع، خفض الضرائب على الواردات وانعدامها على الأرباح، وزيادة الإنفاق الحكومي على تكاليف الخدمات الحكومية، وإعفاء كبار التجار من تطبيق القوانين، وضمان الربح دائماً وتعويض الخسارة.
وعندما نضجت مرحلة التطوُّر الرأسمالي، والتي أخذت طابعاً تبعياً طفيلياً، بالضرورة، كنتيجة للتبعية الاقتصادية والسياسية للدول الامبريالية، وكنتيجة لطبيعة تراكم الدخل والثروة بيد البرجوازية من الريع النفطي ثم الريع العقاري، فريع الأوراق المالية، وليس من تراكم الأرباح في قطاعات منتجة للسلع، إلا في أضيق الحدود، كان لا بد أن تنضج معها أزماته في الوقت نفسه.
ونعني بذلك تراكم الدخل والثروة بيد الأقلية، على حساب الأكثرية، واحتكار السلطة، وحرمان الغالبية من حقوقها المتساوية في الثروة الوطنية، وتمليك وسائل الإنتاج للأقلية (آخر مظاهرها الخصخصة)، مع بقاء الجانب الآخر، وهو القوى المنتجة، متخلفاً اللهم إلا في قطاعات الخدمات والتوزيع وليس الإنتاج.
وقد بدأت بوادر هذه الأزمات بالظهور في أواخر السبعينات من القرن الماضي، كما تجلَّت في أزمة البورصة عام 1977، ثم الانهيار الكبير للبورصة (أو ما يُعرف بأزمة المناخ) عام 1982، وتوالت بعد ذلك الأزمات الاقتصادية، فكان لا بد أن تتبعها أزمات اجتماعية وسياسية، كتراجع المستوى المعيشي للغالبية، وهيمنة الأيديولوجية البرجوازية في أكثر أشكالها تخلفاً، واشتداد ساعد الرجعية السياسية، التي كان أبرز مظاهرها حل المجالس النيابية.
لقد ألقت طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي تبعات هذه الأزمات على كاهل المجتمع الكويتي.
أما الطبقة المسيطرة، فكل أزمة بالنسبة لها كانت عبارة عن نهاية موسم حصاد لمدخرات المجتمع ووسائل معيشته، لذلك، لم تكن تعير أي الاهتمام لوضع حلول علمية وجذرية لهذه الكوارث، وهي عندما تطرح حلولاً لهذه الأزمات، فإنها تحصرها في حل أزمة المؤسسات الاقتصادية والمالية التي تتملك أصولها الأقلية الثرية، كالبنوك والشركات ومختلف المؤسسات، أما الأزمات الحقيقية، كالتضخم وضياع مدخرات الأفراد والبطالة وهروب الرساميل، فهي لا تتعارض مع مصالح الطبقة المسيطرة.