
نحن نشهد الآن حُقبة مختلفة تماماً عما سبقها، هذا زمن كُسرت فيه كل المحرمات السياسية والأخلاقية والقومية، حيث أصبح فيه لقاء ممثلي العدو الإسرائيلي المغتصب لأراضينا العربية من فلسطين ومرتفعات الجولان ومزارع شبعا إلى جزيرتي صنافير وتيران «واقعيةً وتنسيقاً مع شريك إقليمي مهم في المنطقة ومقاومته إرهاباً ومغامرة غير محسوبة العواقب ومقاطعته لغةً خشبية قديمة عفى عليها الزمن».
فلم تعد لقاءات أنور عشقي بالإسرائيليين سراً كي نكشفه، أو تهجّم صاحب قناة الفراعين توفيق عكاشة على الشعب الفلسطيني ومقاومته عيباً، أو مناصرة عبدالله الهدلق لإسرائيل خيانةً.
ومع انكفاء النفوذ الأميركي في المنطقة، وتراجع قوته، وعودة العلاقات الأميركية – الإيرانية، بعد الاتفاق النووي الأخير، تزداد اللقاءات الرسمية العربية مع ممثلي العدو، بحثاً عن حليف جديد، فقد سرّبت الصحف الإسرائيلية، وتحديداً «جيروزاليم بوست» لقاءً لملك دولة عربية صغيرة جداً برئيس مؤسسة التفاهم العرقي الحاخام مارك شنير، المستقرة في نيويورك، وقد تباحث الطرفان موضوع ازدياد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وسُبل مواجهته.. (راجع صحيفة رأي اليوم عدد 6 مارس 2016).
بينما يبقى المزاج الشعبي العربي العام ضد قبول إسرائيل كدولة جارة وشريك إقليمي – كما يريدون – رغم كل حملات التضليل والتعتيم على المشهد الفلسطيني المنتفض منذ أكثر من خمسة أشهر في الضفة والقدس – حيث تتصاعد عمليات الدهس والطعن ضد المستوطنين وجنود الاحتلال يوماً بعد يوم – بافتعال صراعات بديلة، كي يتوارى الصراع العربي – الإسرائيلي لمصلحة حروب طائفية ومذهبية يُراد لها أن تشغل المنطقة وتحرق الأخضر واليابس.
لكن الحملة البرلمانية في مصر لإسقاط عضوية عكاشة إثر استقباله للإسرائيليين في منزله أثبتت أن نبض العروبة مازال حياً في الشارع المصري، وخاصةً في موقف النائب الناصري الشجاع كمال أحمد، عندما رمى حذاءه بوجه عكاشة، مستعيداً موقف الصحافي العراقي البطل منتظر الزيدي مع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن في المؤتمر الصحافي الشهير، مع الفارق طبعاً، فالشعب المصري أيَّد موقف كمال أحمد وأدان عكاشة، بينما انهال ممثلو الاحتلال وجلاوزته على الزيدي بالضرب والتعذيب والإهانة، حتى كسروا أنفه ومقدمة أسنانه.
وقد روى لنا الأخير معاناته مع حكومة المحصاصة الطائفية التي كادت تبقيه في السجون حبيساً طول الدهر، لولا أن قضيته أخذت طابعاً وطنياً وعربياً وعالمياً، فأطلقوه.
جيد أن يستعيد بعض السّاسة العرب اليوم شعارات الزمن العربي الجميل، كالتغني بالعروبة والهوية العربية والأمن القومي العربي، لكن يجب تذكيرهم بأن استدعاء العروبة، باعتبارها هوية جامعة ومشروعا حضاريا نهضويا لا يمكن أن يكون خارج خندق المواجهة ضد المحتل والمستعمر والمستغِل والظلامي والمتطرف، ولا يمكن للعروبة أن تحيا في وحل المشروعات الطائفية والعنصرية والفاشية، فالعروبة لا تفترض صراعاً مع الشعوب المجاورة والأديان والمذاهب المختلفة، وبوصلتها مضبوطة باتجاه فلسطين المنتفضة ونحو التضامن والتكامل والتعاون العربي، لتحقيق الوحدة والعدالة الاجتماعية والمواطنة والتنمية والاستقلال والتحرر من التبعية للأجنبي والحرية.
وهي على تقاطع تام مع كل أحرار العالم من جيّاب فيتنام إلى نيلسون مانديلا وتشي غيفارا وكاسترو وتشافيز ومورالِس وفيتوريو أرغوني وراتشيل كوري ورمزي كلارك.. أما سوى ذلك، فليست من العروبة بشيء.
يضاف الى هذا الحس الاخلاقي القومي الذي تمخضت به هذه المقالة ، فكان عطراً يتضوعه من يعرف ، حقاً ، ما هي العروبة و ما هو الاسلام ….. لابد من الاعتراف بأن الممارسات الاستبدادية الجائرة التي جاوزت الحد من بعض الحكام العرب ، لقد قيّدنا ها هنا الجور بمجاوزة المعقول ، و الا فكل القادة من هذه الامة .. هم ظلمة مستبدون …….تلك الممارسات قد زعزعت الثقة القومية لدى كثير من ابناء الوطن العربي ؛ و السبب انها جاءت مسمى الدفاع عن التمة العربية و الوقوف بوجه الصهيونية . محاولة من اؤلئك الحكام لإضفاء ثوب التبرير لأفعالهم الشنيعة .. و لخلط الاوراق .. ليقع الناس في حيرة .. كيف هو ظالم و هو يندد باعداء الامة .. الصهاينة صباحَ مساء !
وبالطبع ، في مثل هذه الظروف العصيبة لا يتفطن الذهن الى الفرق الجوهري .. بين من يدعي كره اسرائيل او حتى على فرض انه حقيقة يعاديها …وبين التزامه بحق الامة العربية ابتداءً من شعب بلده ؛ نعم ، هناك بون شاسع بين الاثنين ؛ فمن يهتم ، حقيقةً ، بأمر الوطن العربي ؛ لا يمكنه ان يجور على شعبه او على جيرانه العرب ؛ لأن محاربة اعداء العروبة و مغتصبي حقوق ابنائها .. إنما هو فرع من الاصل الذي يقرر رفع الظلم عن ابناء الامة . فإذا سقط الاصل ، هوى بإثْره الفرع … و اصبح الدفاع عن فلسطين دعوى دجال ، يريد استغلال ذلك لتقديم العذر عن جرائمه !