
محمد الغربللي:
في ما يخص ترشيد الإنفاق، وفرض سياسة شبه تقشفية يعانيها المواطن ذو الدخل المحدود والمتوسط، فإن المشكلة هي مشكلة فقدان ثقة، قبل كل شيء، فمن أين يأتي فقدان الثقة هذا؟
بالتأكيد من ظنون وشكوك، فهذا يؤدي بالطبع إلى نوع من الحالة النفسية المضطربة، التي تحتاج إلى علاج، فقدان الثقة يأتي من أفعال ووقائع تعزز بالأحداث والواقع الملموس والبراهين والإثبات، وليس بالشبهة أو التخمين الظني.
دعوة الثمانينات
بداية هي ليست المرة الأولى التي تطلق فيها الدعوات التي تنادي بترشيد الإنفاق، فقد أطلقت في نهاية الثمانينات الدعوة إلى شد الأحزمة، عندما وصلت أسعار النفط المعلنة إلى 13.8 دولارا في أكتوبر 1988، ما استدعى رفع هذا الشعار، لكن في ذلك الوقت لم يكن أمام السلطة التنفيذية مجلس منتخب يناقش سياساتها، فقد كان مجلس الأمة منحلاً عام 1986، وأيضا كانت الصحافة مقيَّدة بالكامل، عندما فرضت في نفس السنة الرقابة المسبقة على الصحف والمجلات المحلية، لذا لم يكن أمام سياسات السلطة ودعواتها الاقتصادية وتوجهاتها رأي آخر.. في تلك الفترة التي رفعت فيها الحكومة شعار الترشيد وشد الأحزمة، كما تكشف الوثائق التي نشرتها صحيفة الراي الكويتية في عددها الصادر في 2015/2/23، عن عملية الاقراض التي قام بها مكتب الاستثمار الكويتي في لندن عام 1989، حيث حول 400 مليون دولار إلى شركة مجموعة توراس، التي بدورها مولت بمبلغ 300 مليون دولار الشركة التابعة لها، وهي شركة توراس موستنشن لندن، لتنتهي القصة من دون الدخول في التفاصيل، في ما إذا كانت هذه العملية وسيلة للاستيلاء على هذه المبالغ المليونية.
ويتحدث التقرير المليء بالفضائح المالية المليونية قيام المكتب بشراء شركات خزف برتغالية من شريكهم المالك لتلك الشركات، السيد دي لاروسا، وهي شركات خاسرة ومديونة، ما كبَّد مكتب الاستثمار خسائر مالية قيمتها 73 مليون دولار.
ربع قرن
إذن، هي سلسلة من السرقات المالية التي كانت تتم في هذا المكتب التابع لوزارة المالية، التي تنادي بشد الأحزمة.. هذه المعلومات لم يتم تداولها في ذلك الوقت، ولم يتم اكتشافها إلا لاحقا بعد عام 1991، بعد التحرير وعودة الحياة البرلمانية، وتشكيل لجنة تحقيق ورفع قضايا على من سرق ثروة البلاد، وأصدرت أحكام قضائية على بعض المتهمين.. وبالمثل أيضا عرفت في ما بعد سرقة ناقلات النفط من أطراف في شركة ناقلات النفط، منهم من هرب أو جرى تهريبه بحراً، ومنهم من قدم للمحاكمة ولايزال محكوما بالسجن حتى الآن.
تلك العملية تمَّت أيضا في وقت كان البلد يدعو إلى ترشيد الإنفاق وشد الأحزمة، أي أن عمليات السرقة تمَّت قبل عام 1990.
تلك العمليات ليست سوء إدارة أو اجتهادا استثماريا قاد إلى خسارة لا يمكن تجنبها، بل سرقة «عيني عينك» وعلى رؤوس الأشهاد. نحن نتحدث عن تاريخ مضى عليه أكثر من ربع قرن، وهي فترة يمكن الاستفادة والتعلم منها، لبناء مستقبل جدير بالأجيال القادمة.
فترة 25 عاماً وأكثر كان يمكن البناء فيها، وهناك أمثلة لدول كثيرة في العالم النامي، سواء في بلدان صغيرة الحجم، مثل سنغافورة، أو بلد كبير مثل ماليزيا، ومع ذلك «ربما» لم تستطع الفكاك من عادتها القديمة.
التأمينات الاجتماعية
وتوالت الحكايات المؤلمة التي تعزز فقدان هذه الثقة، كحكاية التأمينات الاجتماعية، وهي حكاية أخرى تتحدث عنها الصحف، كما كتب د.طارق العلوي عن التجاوزات والسرقات التي تتم فيها، ومنهم أيضا النائب السابق عبدالرحمن العنجري، وكتابات صحافية أخرى قد لا يهتم المسؤول عنها أو فيها، لكن الطامة الكبرى، أن يبين عضو مجلس إدارة في التأمينات الاجتماعية أمر هذه السرقات منذ ما قبل عام 2008، والحكومة ساكتة، بل متهربة من الوقوف أمام تلك السرقات، وبمبادرة فردية من عضو مجلس الإدارة د.فهد الراشد، وبشجاعة أدبية منه، تقدَّم ببلاغ إلى النائب العام في نهاية عام 2008، لتكشف هي بدورها ما تتم سرقته من أموال التأمينات.. وأيضا الحكومة خرساء صماء، وكأن الأمر لا يعنيها بشيء، واستمر من ارتكب تلك السرقات في منصبه مع حملة إعلامية من جانبه، لتلميع صورته، وقد تكون مدفوعة الأجر، حتى فتح له باب الطوارئ، ليهرب منه، كحال آخرين مروا بنفس التجربة والممارسة.. ولم يتم كشف هذا الأمر، إلا من جراء قيام الحكومة السويسرية بتجميد حساباته بشبهة غسل الأموال، وتكشفت الأمور في ما بعد، ولاتزال سارية، مع خوف من طمطمة القضية بوسائل كثيرة وعديدة ومجربة في سنوات سابقة.
سلسلة طويلة
ونتحدث أيضا عن الإبداعات المليونية، التي تم إثباتها اسماً ومبلغا، وأحيلت أطرافها للنيابة العامة، التي وجدت أنه لا يوجد تشريع يعالج هذا الأمر.
هل نتحدث أيضا عن المناقصات المليونية التي قضمت نفسها بنفسها من استاد جابر إلى محطة مشرف للصرف الصحي إلى المشاريع ذات المرض المزمن بالتأخير، حتى السقف الزائف في مكاتب حولي التعليمية لم يسلم من مشاريع الغش، وهو على الرؤوس، مع أن السقوف الزائفة في المنازل المتواضعة البناء تبقى عشرات السنين على حالها، لكن السقف الزائف للمشاريع الحكومية لم يسلم من السقوط وإفشاء سوء تنفيذه، فحتى المشاريع الصغيرة لم تسلم هي أيضا من التردي، ولسان حالها يقول إنها لا تقل شيئاً عن فساد المشاريع الكبيرة.
سلسلة طويلة من السرقات بشكل مباشر، وعلى «خمطة اليد»، أو بطرق ملتوية، لذا يفقد المواطن ثقته، ويرفض في الوقت نفسه إجراءات الحكومة ودراساتها، مع ضلوع من مجلس الصوت الواحد، الذي يحاول أن يقوم بعملية تحشيد، ليعطي نفسه قدرا من المواءمة الشعبية التي يفتقر إليها، وفق تصريحات الرئيس بدعوة هيئات أخرى لمناقشة رزمة إصلاح اقتصادي تتفق عليها السلطتان التشريعية والتنفيذية.
خطوة أولى
قبل طرح إصلاحاتكم، اصلحوا أنفسكم وواجهوا الفساد، الذي ارتكب أمام ناظريكم وأنتم متعمدون إشاحة وجوهكم وأسماعكم عنه، وهو كلام موجه إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية اللتين تتباكيان على أموال البلد وتدعوان للإصلاح.
أعيدوا الثقة إليكم، بداية ليس بالكلام أو الشعارات، بل بالإجراءات التي عليكم اتخاذها بداية تجاه الإيداعات المليونية، وانتهاء بالتأمينات الاجتماعية، مرورا بالمشاريع المضروبة.