كتب محرر الشؤون العربية:
لطالما أثار احتكار مصر لمنصب الأمين العام للجامعة العربية تململا عربيا في كواليس سياسية كثيرة، ولعل أول صوره ظهرت عام 2005، عندما أبدت الجزائر رغبتها، مدعومة من العراق، في الدفع بترشيح وزير خارجيتها، آنذاك، عبدالعزيز بلخادم لهذا المنصب.
يومها استخدمت مصر كل وسائلها السياسية لوقف سيناريو الجزائر لتدوير المنصب، ونجحت القاهرة بالتنسيق مع الرياض ودمشق، في الزج بمرشحها عمرو موسى، وإخراج بلخادم من الحلبة برمتها. الآن، وقد تم اختيار وزير خارجية مصر الأسبق، أحمد أبوالغيط، أمينا عاما جديدا للجامعة العربية خلفا لنبيل العربي، بدأ كثير من العرب في التوجس من أن تفقد الجامعة ما تبقى لها من قيمة رمزية، في زمن تتزايد فيه الأزمات العربية، وفي ظل ما عرف عن أبوالغيط من «صداقة تاريخية عميقة» مع إسرائيل.
وأبوالغيط، شغل منصب وزير خارجية مصر إبان الفترة من 2004 إلى 2011، حيث خرج من الوزارة ضمن من خرجوا من المشهد السياسي بفعل ثورة 25 يناير، التي أطاحت نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك ورموزه.
ذهاب المقعد وعودته
الحالة الوحيدة التي راح فيها هذا المنصب لجنسية عربية أخرى، عندما عقدت مصر اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل عام 1979، وتعرضت لمقاطعة عربية شبه شاملة، فجرى اختيار التونسي الشاذلي القليبي لشغل المنصب خلال الفترة من مارس 1979 حتى سبتمبر 1990، كعقاب للقاهرة على خروجها عن الصف العربي آنذاك.
لكن بانفراج الأمور عربيا، عاد المقعد إلى مصر، وتتابع عليه منذ ذلك الوقت وحتى الآن ثلاثة أمناء عامين، هم محمد عصمت عبدالمجيد، وعمرو موسى، ونبيل العربي، قبل أن يتم تعيين أبوالغيط أمينا عاما جديدا.
وسيناريو التدوير ليس جديدا، فقد بدأ يتعالى في عدد من الأروقة العربية، وتجدد قبيل انتهاء المدة الثانية لموسى في أول يوليو 2011، حيث لوَّحت قطر بالدفع بوزير خارجيتها السابق خالد العطية إلى هذا المنصب، ولقيت مساندة عربية، وخاصة أن المرشح الذي اعتزمت القاهرة الدفع به، وهو الدبلوماسي مصطفى الفقي، سكرتير الرئيس الأسبق حسني مبارك للمعلومات، لم يحظَ بقبول من جانب عدد كبير من الدول العربية، وبالصدفة أنه لم يتولَّ حقيبة الخارجية.
في مواجهة موجة متصاعدة من الاعتراض، اضطرت مصر إلى سحب ترشيح الفقي، لتحافظ على المقعد الوثير لها، ورشحت (وهي غير مقتنعة) كحل توافقي مقبول نبيل العربي، لأنها لم تكن راغبة في أن يذهب هذا المنصب بعيدا عنها، والذي بات على يقين أنه أدى مهمته المؤقتة، ولم يعد مقبولا من بلده، لذلك عزم على ترك المنصب مصحوبا بلقب أقل من شغله منذ تأسيس الجامعة العربية في مارس 1945، فلم يمكث فيه سوى خمس سنوات، أي دورة واحدة فقط.
منصب شرفي
ويرى مراقبون أن القضية ليست لها علاقة بالتدوير من عدمه، لأنها أكبر من ذلك، بل تتعلق بكيان له دور شامل في الحفاظ على مصالح جميع الدول العربية، والمنصب ليس مغريا ولا شرفيا، لأنه يضع على عاتق صاحبه هموم 22 دولة عربية، وحتى الآن أثبت هذا الكيان إخفاقه في غالبية الاختبارات التي مرَّ بها، على صعيد حل الأزمات، أو ردم الهوة بين الدول العربية.
ويضيفون أن اجتماعات الجامعة، على مستوى القمة أو الوزراء تحوَّلت إلى منتدى متواضع أو ساحة للخطابة، وأحيانا إلى مكان لتصفية الحسابات السياسية، وهناك العديد من المؤتمرات التي وقفت شاهدا على هذه النتيجة، وأكدت أن العجز عن تحقيق اختراقات مركزية صفة لصيقة بالجامعة العربية. فوسط الجدل الذي يدور بشأن الخلافات العربية المتجذرة، ومساهمتها في التأثير على العمل المشترك، يظل الدور المعنوي للأمين العام أكبر من كونه منصبا شرفيا، على عكس ما تعده مصر بمثابة مكافأة نهاية الخدمة لبعض وزراء الخارجية لديها (عصمت عبدالمجيد مثلا) أو قفزة إلى أعلى للتخلص من شخصية حظيت بقبول نسبي في الشارع، لاعتبارات بعيدة عن الدور والكرامات السياسية، حيث أبعد الرئيس مبارك، وزير خارجيته عمرو موسى من منصبه، بعد أن تزايدت شعبية الأخير، وهو ما اعتبره مبارك تهديدا مباشرا له شخصيا، في وقت بدأت بورصة الترشيحات لمنصب رئيس الجمهورية في مصر تنتشر على استحياء، ويتداول فيها اسم موسى، بسبب أغنية شعبية ساذجة وجدت قبولا عند قطاع من المواطنين البسطاء.
لكن عندما وصل عمرو موسى إلى مقعد الأمين العام تصوَّر الكثيرون أن شعبيته المصرية، ربما تتحول إلى شعبية عربية، فيضفي حيوية على الكرسي الأثير لدى مصر، لكن ما حدث أن الرجل تعامل مع المنصب على طريقة رجال العلاقات العامة، الذين يتفوهون بكلمات دبلوماسية منمقة وبراقة، ترضي من يستمعون إليها، لكن تفتقر إلى المعنى الحقيقي.