
كتب محمد جاد:
«عيون الحرامية»، هو الفيلم الثاني للمخرجة الفلسطينية نجوى نجار، التي قدمت قبله عام 2008 فيلم «المر والرمان»، الذي يحكي مأساة زوجين شابين، ضاع الرجل في السجن، وتم استقطاع جزء من الأرض من قِبل دولة الاحتلال، وانعكاس ذلك على الزوجة الشابه.
أما فيلم «عيون الحرامية»، فيستند إلى واقعة حقيقية حدثت وقت الانتفاضة الثانية، حيث قام الفلسطيني ثائر حماد بتنفيذ عملية مُسلحة عام 2002، قتل خلالها 11 من جنود الاحتلال واثنان من المستوطنين، كما جرح تسعة أشخاص في منطقة تسمى (وادي عين الحرامية) بالضفة الغربية قرب رام الله، وفي النهاية تم القبض عليه عام 2004، بعد وقت طويل من التقصي والتحقيقات، ليقضي 11 عاماً في سجون الاحتلال، وليخرج بعدها فيجد زوجته قد توفيت، وابنته مفقودة.
الفيلم بطولة خالد أبوالنجا، سعاد ماسي، خالد الحوراني، إيمان عون، مايسة عبدالهادي، سهيل حداد، وملك أرميله، ومن إنتاج فلسطيني – جزائري، وسينايو وإخراج نجوى نجار.
يبدأ الفيلم بلقطات لشاب في قبو إحدى الكنائس، مُصاب بطلق ناري، وبجواره راهبة وأحد الآباء، وبينما الجنود يبحثون عنه، يتم تهريبه عبر أحد الممرات، ليتم توقيفه عند إحدى دوريات التفتيش، وبما أن علامات الإصابه لم تزل على وجهه وجسده المُنهك، وكذلك لم يحمل أي أوراق تثبت شخصيته، يتم القبض عليه، ويقضي في السجن حوالي 10 أعوام، ليخرج، فلا يجد زوجته أو طفلته، يعلم بأن الزوجة ماتت، والطفلة اختفت، ليبدأ بعد ذلك رحلة البحث عنها، وقد أصبحت الطفلة هي كل ما تبقى له من حياة. وما بين التفتيش في سجلات قديمة، وأوراق تائهة، يصل إلى مكان آخر على أمل أن يجد ضالته.
الفقرة السابقة تمثل الجزء الحقيقي من القصة، الذي استند إليها الفيلم ليقدم حكايته، لكن المُصادفات أفسدت مصداقية الأحداث إلى حدٍ كبير، وجعلت من الشخصيات رموزاً مجردة، بأن يصبح المناضل في مقابل الخائن، والمثالية المطلقة في مواجهة الشر المُطلق، ولا يوجد مُطلق لا في الفن أوالحياة.
يدخل رجل غريب القرية، ويجلس إلى أحد المقاهي، هناك مشكلة في المياة، التي بالكاد تصل إلى أهل المكان، إضافة إلى عُطل عارض بالمقهى، ينجح في إصلاحه، ويسأل النادل عن عمل، فيأخذه إلى مسؤول القرية، الذي يخبره بأنه يقوم بتجديدات في شبكات المياة، ليبادره الغريب بأنه مهندس شبكات مياه، فيعطيه الرجل حجرة صغيرة داخل مشغل حياكة فيه العديد من النساء العاملات، بينهن امرأة يريد صاحب العمل الزواج بها، يتضح في النهاية أنها المرأة التي تبنّت طفلة الغريب المفقودة.
كما يكتشف الباحث عن ابنته أن الرجل مصدر الشر، يقوم بتحويل المياه إلى المستوطنات، جاعلاً أهل القرية في مُعاناة دائمة.
وبدوره يحاول الشرير تهديده بتاريخه النضالي أو الإجرامي، الذي قضى وفقد بسببه عشرة أعوام من عمره، وخاصة أن الرجل فطن إلى العلاقة التي بدأت تنمو بين المرأة التي يريد زواجها وبين الغريب.
العلاقات الحقيقية
على الرغم من حبكة الحكاية وتلفيقاتها، فإن الحالة التي تحرك الشخصيات (المناضل، المرأة والطفلة) هي التي تخلق الإيقاع الفيلمي، بتوتراته، من خلال التذكر والتأمل، دائرة الملل وفقدانه في الوقت نفسه.
ولو كانت هذه الحالة فقط هي أساس العمل، لاختلف كثيراً، بعيداً عن حبكة مصنوعة، حتى يمكن التصدي لمقولات كبرى، ينتظرها المتلقي، بل ويضعها صانع الفيلم في حسبانه، بما أنه يقوم بعمل فيلم ينتسب إلى فلسطين.
وتلعب المخرجة لعبة لطيفة في تجسيد هذه الحالة، فالرجل لم يتأكد يقينا بأن الطفلة ابنته بالفعل، لكنه تأكد من إحساسه بها، وكذلك هي، وهذا يكفي.
ولم يرتبط فعلياً بالمرأة التي تبنتها، والتي لم تخفِ مشاعرها نحوه، وكذلك هو.
هنا تبدو الحقائق غير يقينية، رغم العيش من خلالها، أو بمعنى أصح عدم استطاعة العيش من دونها، فأي يقين في الحب، سواء بين رجل وامرأة أو بين أب وابنته؟ وهو ما نجح السيناريو في الإيحاء به إلى حدٍ كبير.
ربما هذه هي الحكاية التي يريد الفيلم سردها، بخلاف الإطار العام الذي تدور من خلاله، وهو ما خلق حالة الاضطراب ما بين تصديق الحالة وتلفيق الأحداث.
سُلطة الاحتلال ومبرراتها
يحاول الفيلم ضبط مفاهيم النضال وتبعاته، إرهاب أم مقاومة، بطولة أم لعنة تطارد صاحبها، وتجعله سجيناً طوال حياته، وخاصة في عين سلطات أخرى تتولد عن سلطة كبيرة اسمها سلطة الاحتلال.
هنا يبحث الفيلم عن موازين السلطة ومواقعها بين الفلسطينيين أنفسهم، كيف يتم التحايل عليهم من قِبل أحدهم، كيف يستغلهم بدوره، ويُساعد في تحول حياتهم إلى جحيم.
يأتي ذلك، من خلال شخصية أحد أغنياء الحي، الذي وصله أخيراً الباحث عن ابنته، ليتجسد صراع أساسي خفي وأكثر تأثيراً من الصراع ضد الاحتلال وجنوده. فالرجل في ما يُشبه أحد الساسة أصحاب التاريخ السيئ – كأغلبيتهم – وبعدما كشف أمره أمام أهل القرية، يبدأ في الهذيان، وكأنه يخطب أمام شعب بأكمله.. أولاً بأنه لن يموت ــ بعدما حاولت الطفلة قتله وأصابته بطلق ناري في ساقه ــ وأن سرقته للمياه من أهل القرية وتحويلها إلى إحدى المستوطنات القريبة، لم يكن ببشاعة ضياع الأرض بالكامل ــ بمعنى خسرانة خسرانة ــ فلماذا كل هذا اللوم، وهو قليل الحيلة أمام سُلطة عاتية لا ترحم؟!
فليحمدوا خالقهم أنهم لايزالون على قيد الحياة، بفضل ما يقوم به من أجلهم وهم لا يشعرون ــ الأمر يُشبه كلمات أي رئيس عربي في خطاب رسمي ــ فهو باقٍ وهم باقون، بفضل حكمته ورحمته، لأنهم في جميع الأحوال من الأفضل لهم أن يعيشوا المُتاح، لا أكثر ولا أقل.