
إن أصعب اللحظات التي يمر بها الإنسان، هي تلك المتعلقة بالوداع والفراق، وخاصة حين يكون الفقيد قامة ثقافية وهامة سياسية وإعلامية، مثل محمد حسنين هيكل.
لا شك في أن خسارتنا فيه كبيرة جداً، لكن ما يعوضنا ويصبرنا، أن الراحل ترك رصيداً هائلاً من كتاباته ولقاءاته ووثائقه منتشرة بين أرفف المكتبة العربية، وهذا ما يميز «الأستاذ»، أنه وازن بين سعة اطلاعه وثقافته وذاكرته القوية، وما كتبه وتحدث به للمشاهدين، بعكس الكثير من مثقفينا، ممَن غرقوا في بحر المعرفة والعلم، من دون أن يدوّنوا خبراتهم ورؤاهم للجمهور، أو العكس عند مَن استهلك ثقافته المحدودة وعلمه البسيط بكتابات كثيرة مكررة وفارغة بلا فائدة جديدة، بينما ظل هيكل حتى آخر أيامه نشيطاً، يقرأ ويتابع ويحلل ويطل على الشاشات.
كنا نود أن يمهله القدر أكثر، كي يُواصل رصد مرحلة من أعقد المراحل التي تمر بها الأمة العربية، من مشرقها إلى مغربها، من احتجاجات مستحقة على الظلم والفقر والاستبداد، وهي مطالب مشروعة، إلى أجندات مشبوهة وصراعات أهلية وحروب عبثية وتدخلات خارجية، بيد أن الإرادة الإلهية شاءت أن تُنهي رحلته.
كثيراً ما أثار «الأستاذ»، بآرائه العواصف والأعاصير، فسرد التاريخ والوقائع والتحولات التي مرَّت بها المنطقة العربية والعالم، وعلى مدى قرن من الزمن تقريباً من المعايشة والمتابعة، حتماً ستختلف مع رؤية شاهدٍ آخر عليها .
فكانت أول صداماته مع رفاقه الناصريين من أصحاب «الرؤوس الحامية» جناح علي صبري في أزمة مايو 1971، فانحاز «الأستاذ» إلى طرف أنور السادات، حين ذهب إلى أولوية التهدئة مع العدو الإسرائيلي، لعدم جاهزية الجيش المصري، وبضرورة الانفتاح على أميركا، بدلاً من مناطحة الثور، لكن انبطاح الأخير وسعيه للسلام مع إسرائيل وإخراج مصر بكل ثقلها الحضاري والاستراتيجي من معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وطرد الخبراء الروس، وقمع المعارضين لتوجهات «الرئيس المؤمن» الجديدة أدى إلى خلاف هيكل معه في 1974، وانقلابه عليه، ثم انتقاده نقداً حاداً بـ«خريف الغضب».
قد يختلف أحدنا مع الكثير من تحليلاته واصطفافاته مع هذه السلطة أو تلك، وخاصة في قراءته لأحداث «حرب الخليج الثانية»، وتجاهله التام لما ارتكبه العدوان والاحتلال في الكويت 1991-1990 من جرائم وفظائع بحق شعبنا وأرضنا، ومع ذلك تجد نفسك مجبراً على الصمت أمامه، وتسمع له حتى نهاية الحكاية. ومَن يقرأ كتابه (من نيويورك إلى كابول) سيدخله قلم المبدع أجواء «الحرب الباردة»، وسيعرف كيف استغلت أميركا الدين، لمواجهة خصمها السوفييتي «الملحد»، الذي تورَّط في دخول أفغانستان، فأذنت أميركا بالجهاد والنفير العام، وراح حلفاؤها يُجهزون لها «المجاهدين»، تاركين وراءهم فلسطين مغتصبة، ولبنان مجتاحا ومضطربا.
لكن ما يلفت نظرك، رواية غريبة يضعها الكاتب عندما يوجه أصابع الاتهام إلى الصرب في أحداث في 11 سبتمبر، على الرغم من اعتراف القاعدة الضمني بالجريمة.
ولعل أهم ما يؤكد نباهة هيكل وحدّة ذكائه وأهميته، أن خصومه الذين يلعنونه كل يوم ويدعون أنه «مجرد كاتب صنع نجوميته الزعيم عبدالناصر»، تجدهم هم الأحرص على متابعته ورصد تحليلاته.
وفي بداية الانتفاضات العربية قبل بضع سنوات تحدث «الأستاذ» عن مؤامرات جديدة وخرائط بديلة تُعد للعرب في أروقة المستعمرين، فسخر منه الكثير من مثقفينا، واتهموه بالزهايمر. وقد اتضحت الآن صحة نبوءة هيكل وسذاجة خصومه.
فرحم الله «الأستاذ «هيكل بواسع رحمته، فقد رحل جسداً وبقي فكراً ونصاً أنيقاً وحديثاً شائقاً يُنير طريق الأجيال القادمة.