
كتب محمد جاد:
يعد أمبرتو إيكو (5 يناير 1932 ــ 19 فبراير 2016) أحد أهم الكُتاب الموسوعيين، الذين أثروا الفكر النقدي والأدبي في السنوات الأخيرة بالعديد من المؤلفات التي لم تزل تثير الجدل والنقاش حولها حتى الآن. وربما فلسفة التأويل وجمالياته التي أضاف إليها إيكو الكثير، وكذلك أدب وعالم العصور الوسطى، يعد من أهم إنجازاته. فتأتي روايته الأشهر (اسم الوردة)، لتصبح أهم مؤلف أدبي يعبّر عن روح ومعتقدات ذلك العصر.
بدأ إيكو حياته العلمية بدراسة فلسفة القرون الوسطى. كذلك، أصبحت الموضوعات المتعلقة بالسيميائية وعلم الجمال، والعلاقة ما بين الشفاهية والكتابية من أهم المجالات التي حظت بالنصيب الأكبر من دراساته النقدية.
وعَبْر جيمس جويس وخورخي لوي بورخيس وغيرهم، صاغ إيكو مفاهيم جمالية جديدة وفق رؤيته لنظريات التأويل ودورها في تلقي النصوص والتفاعل معها. وهذه نظرة سريعة على عوالم إيكو المتشعبة..
تخصص إيكو في العصور الوسطى وعالمها، وكتب في سن متقدمة روايته الأولى والأشهر «اسم الوردة» عام 1980. وهي تدور في العصر الوسيط في شكل شبه بوليسي حول قتل أحد الرهبان داخل دير بينديكتي عام 1327.
بالطبع، وإن كان الشكل البوليسي هو الإطار الذي تدور فيه الحكاية، إلا أن النص أعمق بكثير، فما بين التوتر السياسي والديني، والثورة الاعتقادية في ذاك العصر، وكشف مفاسد السلطة، والدينية بوجه خاص، ومشكلات الروح والجسد لدى عالم الرهبان، والأهم مسألة الوعي والسلطة، حيث الصراع بين البابا والإمبراطورية، والصراع بين الطوائف المسيحية نفسها، والصراع بين الطوائف والحركات الإصلاحية. وكيف أن الفلسفة يمكنها أن تقضي على ما اعتبرته اﻷديان مبادئ راسخة.
ونظراً لشيوع الرواية وشهرتها في العالم أجمع، وترجمتها إلى معظم اللغات، تم تحويلها إلى فيلم سينمائي بطولة شين كونري، وإخراج الفرنسي جان جاك آنو. إلا أن الفيلم لم يستطع أن يحيط بالرواية وعالمها، رغم الاجتهاد الكبير في تحويل النص إلى الشاشة.
من ناحية أخرى، كان لشهرة «اسم الوردة» ظلالها السيئة على أعمال إيكو الروائية الأخرى، مثل: «بندول فوكو» 1988، «جزيرة اليوم السابق» 1996، «باودولينو» 2000، «الشعلة السرية للملكة باولا» 2004، «مقبرة براغ» 2010، وروايته الأخيرة «الرقم صفر»، الصادرة عام 2015.
عالم التأويل
حول مدى غموض العمل الفني تأتي مؤلفات أمبرتو إيكو، لتؤكد شرعية هذا الغموض، أنه لن ينتهي، وعلامة وجوده هذه تبدو في التأويلات التي لا تنتهي. وربما كانت بداية التأويل تخص النصوص الدينية، إلا أن النظرية الحديثة أصبحت تطول جميع النصوص. وتأتي مؤلفات إيكو، مثل: العلامة، البنية الغائبة، موجز السيميائيات العامة، القارئ في الحكاية، التأويل والتأويل المفرط، حدود التأويل، والعمل المفتوح. ليخفي كل منها داخله العديد من المدلولات، فالنص لا يعد مغلقاً على الإطلاق، وبالتالي يشترك القارئ في فك رموزه والبحث عن معناه.
هنا يبدو الدور الإيجابي للقارئ، الذي لولاه لأصبح النص في شبه انعدام، فوجود النص وحياته يعتمد بالأساس على القارئ.
ويتناول إيكو كذلك دور «الخلفيات» في إنتاج واستهلاك النصوص، وكيف أن هذه الخلفيات تكمن دائما في لا وعي الكاتب والقارئ، في انتظار الفرص المناسبة للتحرر والتجسد والتفاعل، لأن وجود النص يتحقق ـ فقط – من خلال سلاسل من الاستجابات يستثيرها بنفسه، وهكذا يصبح النص مجرد نزهة يحضر فيها المؤلفون الكلمات والقراء المعنى، فيقول: «أعتقد أنه ليس على القاص أو الشاعر مطلقاً أن يقدم أي تفسيرات لعمله، فالنص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير. وعندما يكون هناك تساؤل بخصوص نص ما، فمن غير المناسب التوجه به إلى المؤلف».
ولنا أن نستوعب جيداً ما تستدعيه هذه الطريقة في التفكير التأويلي، فالقارئ هو المنوط به عملية إنتاج المعنى، وخلق عالم النص.
عالم الترجمة
ومن وجهة النظر نفسها، يتحدث إيكو عن عالم الترجمة، فيرى عدم إمكانية الترجمة من لغة إلى أخرى، وأن الترادف بين الألفاظ هو أمر موهوم ومشكوك به إلى حدٍ كبير.
والمشكلة الأكبر تأتي من خلال عملية الترجمة نفسها، عَبْر المُترجم، الذي يصبح المؤول الأول للنص، ويبدأ في نقله من خلال هذا المبدأ، لكن هل سيأتي هذا التأويل من خلال النص ككلمات، أم من خلال سياق العبارات؟ فالمُترجم طوال عملية الترجمة يبحث عن معادل للكلمة والنص وعالمه. ومهما كانت الترجمة جيدة، فالمحصلة أنها تقريبية، فلا توجد مُطلقات.
عالم الكتاب
تبدو احتفاليات إيكو في مكتبته الضخمة، هذا الشغوف بالنصوص القديمة والمخطوطات والموسوعات والمعاجم، نجده يرفض تماماً فكرة اختفاء الكتاب، والتي تزامنت مع التقدم التكنولوجي. «فالطائرة لم تلغ القطار» على حد قوله.
كذلك، ينفي انتهاء عصر القراءة التقليدي مع هذا التطور، فيقول: «فكرة وجود جيل يقرأ وآخر لا يقرأ. أولئك الذين لا يقرأون في زمن الرسائل القصيرة والكلمات المختصرة هم أنفسهم الذين لا يقرأون في الأصل. في كل زمن ثمّة من يهوى المطالعة والقراءة الذكية وثمة من لا يجد».