
يمارس بعض الباحثين في قراءاتهم للتراث العربي والإسلامي نوعاً من المازوخية والسادية وجلد الذات في معالجة ظاهرة الإرهاب و”الجهاديين”، وذلك عبر إبراز الصفحات المظلمة والدموية والممارسات الوحشية واللإإنسانية في تاريخنا، باعتبار أن ما تمارسه اليوم عصابات التوحش والغُلو من “داعش” وأخواته، هو “الإسلام بعينه” الذي يتغنى به الإسلاميون ويتطلعون إلى تطبيقه على مجتمعاتنا.
وتمثل كتابات السيد القِمني ومحاضراته نموذجاً لهذا الأسلوب المازوخي الاستفزازي الممعن في النقد الهدام، والبعيد عن المنهج العلمي في البحث والقراءة الموضوعية للتراث، فهو يستشهد مثلاً بأسواق النخاسة لبيع الرّق وملكات اليمين والسبايا والفتوحات والغزوات والجزية في الماضي السحيق، أي قبل ١٤ قرناً، كي يقول لنا “إن دواعش اليوم لم يأتوا بجديد من عندهم، لكنهم أعادوا سيرة السلف الصالح فقط ممن تجسَّدت فيهم قيم الإسلام ومبادئه”.
أعتقد أن هذا الطرح يحتاج إلى تدقيق، وقد لا يصمد طويلاً أمام النقد.
أولاً: القِمني يعرف جيداً أن تجارة العبيد والرق لم تتوقف في أميركا – وهي قِبلة الحرية والإنسانية بالنسبة له ولأتباعه – إلا في القرن التاسع عشر عام ١٨٥٥، ولم يصدر قرار عصبة الأمم، بمنع تجارة العبيد إلا في مطلع القرن العشرين ١٩٠٦، وكذلك استمر التمييز ضد السود في أميركا حتى ثورة مارتن لوثر كينغ أواخر ستينات القرن الماضي، وما زالت التجارة بالبشر سارية حتى يومنا هذا، وبأشكال مختلفة عن طريق التعاقدات المشبوهة لجلب العمالة، ثم إجبارها على ممارسة خسيسة ووضيعة أو حرمانها من الأجور المجزية.
ثانياً، ليس من العدل والإنصاف أن نحاكم الماضي بمنطق الحاضر، فلكل عصر طبيعته وقوانينه، وفق المنطق التاريخي، فالغزوات والرِق والعبودية وأخذ السبايا والضرائب من الشعوب المغلوبة كان أمراً شائعاً ومقبولا في ذلك العصر، مارسته معظم الأمم والشعوب مع بعضها بعضا، ولم يشذ العرب والمسلمون عنهم بشيء، لكن الخطأ عند مَن لم يستوعب تطور هذا الزمن، فيريد إحياء تلك الممارسات، التي باتت مرفوضة اليوم، إنسانياً وأخلاقياً وقانونياً، بفعل تطور الحياة وازدياد الوعي بحقوق الإنسان وظهور الدولة وحقوق المواطنة والمساواة بين الجنسين.
ثالثاً: الباحث الجاد والموضوعي عليه أن يقرأ التاريخ بعينين مفتوحتين على كل محطاته وتحولاته وتناقضاته، ثم يصدر أحكامه، لا أن يضع حكمه المسبق على التاريخ، ثم ينتقي منه ما يدعم وجهة نظره.
فالقِمني يغرق معظم مؤلفاته بسرد الأحداث والمواقف الدموية والهمجية في حضارتنا، كي يقول لنا في ما بعد “هذا تاريخكم ودينكم”، معتقداً بأنه أقام الحجة على الإسلاميين وهزمهم علمياً، من دون أن يلتفت بعينه الأخرى إلى الصفحات الأخرى المشرقة والمضيئة في حضارتنا العربية – الإسلامية، من سلم وتعايش وفلسفة وطب وهندسة وفقه وفلك وبلاغة وموسيقى وشعر وحكمة وفروسية.. ولو كان المسلمون الأوائل “دواعش” – كما يدعون – لما بقي هذا التنوع الديني والمذهبي والعرقي موجوداً في عالمنا العربي حتى يومنا هذا، ولما بقيت تلك الكنائس والصوامع والمتاحف والآثار القديمة حيّة، حتى انهالت عليها معاول الجهل والتخلف والظلام باسم “الدولة الإسلامية”.
رابعاً: قد لا يقصد القِمني أن المساواة بين الإسلام و”داعش” لن تهزم أفكار هذه العصابات الإرهابية، بل ستقدم لها صك البراءة، بكل ما ترتكبه من جرائم وانتهاكات باسم الدين، باعتبارها “هي الإسلام”، وفق ادعاء صاحبنا.
وبالمناسبة، هذا الرأي يخدم حتى أعداءنا، فكثيراً ما يردد الصهاينة دعاية أن “الانتقام والقتل والإبادة هي ثقافة عربية بامتياز”، لكي يبرروا همجيتهم في قمع الشعب الفلسطيني.
خامساً: القِمني يقدم نفسه للجمهور بكونه ليبرالياً وتنويرياً ضد الإقصاء والتصفية للآخر، ومع ذلك هو صاحب حملة “اسحق يا ريّس” عندما خاطب الرئيس عبدالفتاح السيسي لكي يسحق الإخوان، أليست هذه داعشية مضادة؟
وأخيراً، من حق أي إنسان أن يعبر عن رأيه وقناعاته، ومن حقنا أيضاً أن نرد عليه بالحجة والمنطق من دون إرهاب أو تفتيش في الضمائر والنوايا.