
كتب محمد جاد:
يبدو أن لفظ الاستشهاد من الكلمات التي تحمل قداسة في تراث العرب، وقد تحوَّل في مسألة القضية الفلسطينية إلى وسام يحمله كل مَن ينتمي إلى هذا الشخص الموصوف بالشهيد، الزوجة والأبناء والإخوة، بل والحي الذي كان يسكنه.
صيغة افتراضية أخرى من صيغ النضال، بأن تستمر سيرة هذا الشهيد، وتصبح أهم من وجوده.
يأتي العرض المسرحي «ألاقي زيك فين يا علي»، ليصحح بعض المفاهيم والرؤى حول الاستشهاد وتبعاته، وردّه إلى مقام البلاغة اللغوية، من دون بلاغة الواقع.
فالمقابلة هنا بين الوهم البلاغي والتصور الخيالي من جهة، والمعاناة الفعلية لعائلة أحد الشهداء من جهة أخرى.
العرض حكايات متفرقة ترويها ابنة أحد الشهداء، عما حدث لحياتها من جراء ذلك.
الفنانة الفسطينية رائدة طه تصوغ تجربتها الشخصية في مونودراما مسرحية، لتسرد قصتها العائلية وذكرياتها عن الفعل الأكثر تأثيراً عليها، وهو استشهاد والدها الفدائي علي طه، إثر اختطافه لطائرة متجهة إلى تل أبيب عام 1972.
هذا العرض الذي قامت بإخراجه اللبنانية لينا أبيض، وتم عرضه في العديد من الدول العربية، كان آخرها ضمن فعاليات مهرجان «القرين الـثاني والعشرين».
تأويل الحدث
في 8 مايو 1972، قام كل من علي طه، عبدالعزيز الأطرش، تيريزا هلسه وريما عيسى بتنفيذ عملية اختطاف طائرة كانت تتجه من مطار فيينا إلى تل أبيب، ليهبطوا بها في مطار اللد.
فشلت عملية الفدائيين الأربعة، واستشهد إثرها قائد العملية علي طه، وعبدالعزيز الأطرش، واعتُقلت تيريزا وريما.
استشهد علي، وترك وراءه أرملة في السابعة والعشرين من عمرها، وأربع فتيات أكبرهن في السابعة وأصغرهن طفلة لم تكمل الثمانية أشهر.
وبعد أكثر من أربعين عاماً تأتي رائدة طه، الابنة الكبرى للشهيد علي طه، لتكسر قداسة المُسمى، وتفصح أو تفضح المعنى الحقيقي لكلمة الشهيد وأثرها على حياة أسرته.
بدأت رائدة بالبحث عن هوية والدها/هويتها وهي في العشرين من خلال ذكريات تتفاعل مع واقعها، سواء عن طريق والدتها أو عمتها، إضافة إلى بعض من الصور الفوتوغرافية وقصاصات الصحف، وبعض الخيال، كي يتجسد في النهاية عملاً مسرحياً وثائقياً، تؤوله وتعيد تفسيره كاتبة ومؤدية العرض.
ذكريات امرأة وأشياء أخرى
مجرد أريكة تجتلسها امرأة وشاشة كبيرة خلفها تستعرض صوراً تجسد ذكرياتها التي تحكي من خلالها، ما عاشته بعيداً عن كلمات الدعاية والنظرة الخارجية والمُعتمدة للشهداء.
لم تعش رائدة وقت التقاط هذه التصاوير، لذا فهي متحررة من سطوتها، وتمتلك الحرية التي أتاحت لها أن تحكي حكايات متباينة، تبدو في معظمها صادمة وغير معهودة. تجريد المشهد المسرحي المقصود هذا يؤصل لتجريد الحكاية من أساطيرها البطولية، ولا يتوقف عندها، بل ليكسر فكرة القداسة، فالأبناء يعيشون واقعاً مختلفاً عما تسطره الصحف عن الشهيد وعالمه.
من ناحية أخرى، تكشف رائدة عن طبيعة عالم السلطة، المتمثلة في ياسر عرفات، فوالدها الشهيد لم يكن رجلاً عادياً، لم يكن شهيداً يومياً منسي الاسم، بل قريباً من السلطة وقائدها، الذي كان يحمل الطفلة (رائدة) ويلتقط معها الصور الفوتوغرافية، ليخلّد الذكرى بدوره.
فتقول رائدة: «كان يرفعنا أنا وشقيقاتي إلى ركبتيه، ويقول لنا يللي يرشكن بالمي ارشه بالنار. كلام لم يدمل جراحا، فجوهر وجودنا وجدته محطّما فيّ». أي بطولة إذاً ومَن الجدير بها؟ هذا هو التساؤل الذي تطرحه الابنة ومؤدية العرض في قسوة على الجميع، فنساء العائلة وما قدمنه للحياة والقدرة على معيشتها ومواصلة رحلتهن وحيدات، هي البطولة الحقة، إنتاج صيغة للحياة هو الأجدى، وسط كل هالات الصخب والتقديس، حتى لو تكلل الأمر بتصاوير مصلوبة فوق الحوائط مع زعيم المقاومة.
المُسمى (ابنة شهيد
حاولت رائدة طوال العرض أن تفتش عن هذا المعنى، وأن توضح المسافة الفارقة بين نظرة الإجلال والواقع، وهو ما قارنته بين عالم طفولي ساذج والحياة الحقيقية، لتسرد موقفين في غاية السخرية.. ففي طفولتها حين كانت بنات الشهيد يتلقين الهدايا لمناسبة الأعياد من محرّر فلسطين «أبوعمّار»، وبسماحه فتح المجال لأبناء الشهداء بالسفر، ما جعل «سمسم، صديقة رائدة» تتمنى استشهاد والدها، حتى تتوقف غيرتها، وتلتحق بعالم الأطفال اليتامى.
ويوم قتل والدها في عمل فدائي، وهرعت الجماعات للعزاء، كانت سمسم في غاية السعادة، وقد حصلت أخيراً على لقب «ابنة شهيد»!
هذه هي الفكرة الطفولية، التي لم تختلف كثيراً عن التصور نفسه لدى العامة، من حيث الاحتفاء والتبجيل، ومن دون أدنى وعي لما يحدث في الحقيقة، وهو ما يتأكد في موقف مغاير يكشف في لحظة وجهاً من هذه المعاناة، وهو ما يتمثل في ما تعرضت له رائدة نفسها من محاولة أحد العاملين مع الزعيم أبوعمّار التعدّي عليها واغتصابها: «كنت في الثانية والعشرين، سكرتيرة في مكتب ياسر عرفات، اغتنم هذا الرجل وجودي بمفردي في المكتب لينقض عليّ. تعالى صراخي، مهددة إياه بالفضيحة، ما جعل هذا الحقير يعي فعلته ويهرب. أبدى أبوعمّار اهتماماً لما جرى، ووعد بتأديبه، لكن الجريمة لم تعاقب. وحتى اليوم أعاتب نفسي، لأني لم أواجه هذا الدنيء، وأنتقم بنفسي لما حدث لي».
الرؤية الإخراجية
تعد عروض المونودرما من أصعب العروض المسرحية، فالممثل الوحيد على خشبة المسرح يتحمّل وحده عبء العرض المسرحي، وعليه أن يظل في حوار دائم مع وعي الجمهور، من خلال الأداء الفني، حتى لا ينفصل عنه ولو لحظة. وباعتماد المخرجة لينا أبيض على حرفية أداء الممثلة رائدة طه، إضافة إلى تجريد المشهد المسرحي من العديد من مفرداته، اعتماداً على لقطات الفوتوغرافيا والأغنيات التي تعبر عن الحدث المحكي أو توحي به من بعيد.
كذلك، إعادة صياغة شذرات الأحداث من وعي صاحبته مؤلفته، ليصبح هناك خط سردي يقع دوماً في المساحة المتوترة ما بين بداية التراجيديا والكوميديا السوداء الساخرة من الجميع ومفاهيمهم البالية. هنا يبدو التدريب الجيد على الأداء ونبرة الصوت المتلونة وفق الحدث وموقعه من لحظة الحكي، ومدى التفاعل مع الجمهور وكأن الممثلة تحكي لكل شخص على حدة حكايتها، حتى يستطيع إعادة تقييم مفاهيم ظل طويلاً واقعاً في أسرها.