
كتب محمد جاد:
كان للثورات الشعبية العربية – رغم تباين نتائجها – الأثر الأكبر في إعادة النظر إلى الأفكار الكُبرى التي حرّكت وفعّلت الحركات السابقة التي عرفها العرب منذ مطلع القرن العشرين، كالحرية والوطنية والاستقلال.
هذه الأفكار التي انتهجت أساليب الفكر الغربي أو الإنتاج الحضاري الغربي الثوري بالأساس، وربما التعثرات التي واجهتها ثورات القرن الجديد يعود إلى الاستناد لهذه الأفكار، التي كان لابد من تطورها، وهو ما ساعد على ظهور تفعيل الفكر الأصولي، بعدما استنفدت أوروبا وأفكارها تأثيرها في الشعوب العربية.. هذا الإفلاس الآني، هو ما يحاول الكاتب خالد زيادة السفير اللبناني بمصر ولدى جامعة الدول العربية، استعراضه في كتابه «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب»، الذي يشمل 8 فصول، تبدأ من حالة الجوار مع الغرب، وصولاً إلى صعود التيار الأصولي، الذي بحث في جهة أخرى، وحلَّ محل الفراغ الفكري والسياسي.
الكتاب صدر في نسخة جديدة ضمن مشروع مكتبة الأسرة، سلسلة العلوم الاجتماعية، في 207 صفحات من القطع المتوسط.
يلفت المؤلف في تصديره للكتاب إلى أن الموجات الثورية التي بدأت في ما يُسمى بـ «الربيع العربي»، لم يزل أمامها الكثير، وقد تمتد وتتكرر، حتى تستقر الأمور، وهو ما يُشبه ما كانت تمور به الساحة العربية في بداية ومنتصف القرن الفائت، مع الأخذ بالاعتبار تغيُّر طبيعة ومناخ الظروف السياسية المحيطة.
ويرى أن ما يجري في العالم العربي، هو نتيجة مباشرة لانقطاع مسار التحديث، والإخفاق في إنتاج خطاب عقلاني معاصر يتصدى للأنظمة الأحادية وموبقاتها، التي وجدت ضالتها في إعلان إسرائيل كدولة، فأصبح ذلك ذريعة للعسكريين، بأن ينقضوا على السُلطة، فتكوَّنت نظم حُكم مطلقة، ألغت النزعات التعددية والمؤسسات التمثيلية، التي كانت متعثرة في تجاربها.
ويشير المؤلف إلى العلاقة الأساسية مع الغرب، التي أصبحت مصدراً للقلق الذي طبع الأفكار، منذ أن أصبحت أوروبا مركز الحداثة في العالم، فكل ما شهده العالم العربي من تطورات منذ بداية القرن التاسع عشر، يُعد نتيجة لهذه العلاقة المتوترة، سواء على المستوى السياسي أو التقني.
الجوار
خلال هذا الفصل، يرى المؤلف أن التفكير العربي الإسلامي لم يزل حتى اليوم أسير العلاقة مع الغرب، وما الإنتاج الثقافي العربي في أغلبه إلا ترجمة لهذه الإشكالية، بضرورة تعيين الذات من خلال الآخر، وخاصة أن هذا الآخر أصبح متفوقاً ومنتصراً، كما في الحقبة الاستعمارية، التي لاتزل تتمثل في الصراع بين الشرق والغرب. وبالعودة إلى التاريخ وجذور هذه العلاقة الممتدة إلى قرون عدة، نجد أن التهديد الإسلامي الأندلسي أيقظ الهوية الأوروبية، وربطها بالمسيحية، فالخوف من الإسلام

أبرز نزعات التشدد لدى الأوروبيين، وأحيا لديهم الاعتبارات المرتبطة بالإيمان المسيحي.
هي لعبة القوة إذن وفرض سُلطة، وما الأمر الآن، إلا انقلاب الحال، فالظروف متشابهة إلى حدٍ كبير. والآن، بعدما كان التهديد الإسلامي لأوروبا يأتي من الحدود، أصبح يأتي من داخل المدن والقرى من أقصى الشمال في السويد، حتى إسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة.
وبينما تخاف أوروبا هؤلاء، وتحيل إليهم ضعفها، تحيل بدورها التيارات القومية والإسلامية ضعف العرب والمسلمين إلى المؤامرة الغربية.
النهضة
لم تقتصر النهضة على الجانب الفكري فقط، بل امتدت لتتحقق على أرض الواقع، فإذا تعلق الأمر بالأفكار، فثمة دمج بين محاولات الرواد، مثل: بطرس البستاني والطهطاوي، إضافة إلى الإصلاحيين من الإسلاميين، كمحمد عبده ورشيد رضا، وصولاً إلى الليبراليين والعلمانيين، كفرح أنطون وشبلي شميل، حتى نصل إلى نهاية الحرب العالمية الأولى.. ثم الجيل الثاني، المتمثل في سلامة موسى وطه حسين، فنصل إلى الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
وعلى أرض الواقع – بغض النظر عن النتائج – جاءت الثورة العربية 1916، والثورة المصرية 1919. كل ذلك، نتاج المؤثرات الأوروبية الفكرية والتقنية، وتأثير السياسات الأوروبية في نهوض الوطنيات. فهؤلاء المفكرون كانوا أكثر تأثراً بالأفكار الأوروبية العائدة لعصر التنوير، التي نشرتها الثورة الفرنسية، وجرى تطبيقها، من خلال عدة رؤى، كالتمدن، التربية، الوطنية، التاريخ، والحرية، والأخيرة كانت النواة للمناداة بوضع دستور يحد من سلطة الحاكم المطلقة.
والسؤال في تلك الفترة كان؛ كيف نأخذ عن أوروبا تقدمها، وفي ثمانينات القرن التاسع عشر مع الإصلاحية الإسلامية أصبح؛ لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
الإصلاحية الإسلامية
حقبة النهضة خلّفت قطيعتين؛ أولهما المناداة بالدستور وتعليقه من جانب السلطان عبدالحميد الثاني، الذي انتهج سياسة حصر السلطة في شخصه، كخليفة للمسلمين، والمناداة بالجامعة الإسلامية في مواجهة التحديات الأوروبية.
والثانية هي التدخل الأوروبي الفعلي في العالم العربي والإسلامي، كديون مصر واحتلالها من قِبل إنكلترا، وتونس من قِبل فرنسا، وأصبح مفهوم الأمة الإسلامية ينحسر في مقابل العالم الإسلامي المترامي الأطراف، فها هو جمال الدين الأفغاني، الإيراني الأصل، والقادم من الهند، يصل ليُبشر في إسطنبول والقاهرة بوحدة المسلمين في مواجهة الغزو الصليبي. وتوافق ذلك مع عبدالحميد الثاني، الذي استخدم الجامعة الإسلامية استخداماً سياسياً في العصر الحديث. ويأتي محمد عبده، ليرى أن سبب التخلف، يكمن في احتلال العنصر الأجنبي للعرب، كالفرس والترك، إضافة إلى الابتعاد عن الدين، وهو التفسير الذي أخذت به الحركات الإسلامية في ما بعد.
ويبدو تساؤل محمد عبده ــ الانتقائي ــ أن أوروبا جاءت نهضتها عندما ابتعدت عن الكنيسة، بل وعن المسيحية، بينما نهضة المسلمين تكمن في العودة إلى تعاليم القرآن، لأن الدين الإسلامي يتفوق على المسيحية، وصالح لكل العصور، إلا أن ما ميَّز فكره ــ رغم الأسس الواهية ــ هو إعمال العقل في العقيدة، وهو أمر لم يكن وقتها يمكن مناقشته.
ويأتي رشيد رضا، الذي بدأ إصلاحياً، وانتهى بمعاركه مع علي عبدالرازق وطه حسين، بسبب كتابي «الإسلام وأصول الحُكم» و«الشعر الجاهلي»، وانتهى الرجل قريباً من العربية السعودية، ومُسانداً لحسن البنا في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين. وبالتالي، لم تستطع الحركة الإصلاحية أن تنشئ جواباً متصلاً على التحديات الأوروبية في المجال الفكري والعلمي، لكنها حاولت أن تواجه المذاهب والبدع داخل الإسلام. فهي في الأخير حركات متهافتة، جاءت كرد فعل لتفوق أوروبي، ونظرة متعالية بالأساس تستند إلى موقف ديني.
الأيديولوجية
بنهاية الحرب العالمية الأولى انهارت إمبراطوريات فوق قومية، الإمبراطورية النمساوية، القيصرية الروسية، والسلطنة العثمانية، وكان لنجاح الثورة الروسية أبلغ الأثر في تكوين أحزاب شيوعية عربية تعتنق أيديولوجيات صارمة، تختلف عن الأحزاب الوطنية في عشرينات القرن الفائت، والتي كانت أقرب إلى النوادي السياسية.
إلا أن هذه الأحزاب الشيوعية العربية تعرَّضت لأول انتكاسة لها، بعد تقسيم فلسطين، واعتراف الاتحاد السوفييتي بإسرائيل.
وترافق ذلك، مع ظهور التيارات القومية العربية، كحزب البعث، وحركة القوميين العرب، وصعود الناصرية، وصولاً إلى انحسار تأثيرها الأيديولوجي، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، ووقوفها ضد الرأسمالية الغربية والإمبريالية، ما جعلها تتحالف مع أعداء سابقين، كالقوميين العرب والإسلاميين.
ذلك على العكس من القومية العربية، التي حققت إنجاز الوصول إلى السلطة، وفرضت أيديولوجيتها لوقت طويل، وخاصة أنه تم دمج تاريخ القومية بالعروبة، وأصبحت تنادي بشعارات الوحدة والتحرر من الاستعمار.
لكن الخطاب القومي العربي البعثي والناصري، والمستند إلى حدٍ ما إلى الاتحاد السوفيتي، فقد استدخل بُعداً دينياً، يرى في الغرب صليبية مُتجددة. إلا أن عداء الشيوعية للغرب هو بالأساس سياسي، ينصبُّ على أنظمة الرأسمالية، من دون أن يكون عداءً لقيم الغرب الفكرية، وهي النظرة المختلفة تماماً في الشرق، ودليل ذلك ما استشفه جاك بيرك في كتابه «العرب تاريخ ومستقبل» الصادر عام 1960، إذ يقول: «على الرغم من أن بعض المواقف الدينية لن تجد التعبير الصريح عنها، وبات بعض المثقفين لا يرضون عنها، فإنها مازالت حيّة إلى حدٍ كبير، ومن المُحتمل أن تعود إلى الانتعاش، من جرّاء ضغط الجماهير غير المثقفة، وضغط العناصر المتطرفة، أو نتيجة الفورانات العاطفية.. ويبدو أولاً وأخيراً، أن الاتجاه القومي العربي لا يقف مُعارضاً للسيطرة الأجنبية وحدها، إنما يقف أيضاً موقف التعارض من قيمها».
الدولة
لم تتم مسيرة التحديث، إلا من خلال الحاكم وإرادته، واستهدفت مؤسسات الدولة، التي على رأسها الجيش، لتظهر الأدوار التي ستلعبها المؤسسة العسكرية لاحقاً – وحتى لحظتنا الراهنة – كما أن بعض سمات التحديث كانت بضغوط وشروط الدول الأوروبية، كإعلان خط كولخانة 1839، الذي نصَّ على المساواة بين الرعايا، بغض النظر عن انتمائهم الديني.
وتسارعت وتيرة التحديث، في ظل الحماية والانتداب والوصاية، مع بروز الدول الوطنية، وإعلان استقلالها وترسيم حدودها، إلا أن مظاهر التحديث لم تحجب الأسس التقليدية للدولة، وما فعله أتاتورك في تركيا لم يمنع تنامي الحركات الدينية المناهضة، كما أن بورقيبة لم يعر بناء المؤسسات الديمقراطية أي عناية.
فالاستعمار يترك للسلطة الوطنية، بعد الاستقلال، التصارع على التركة، مستعينة في ذلك بالقوى التقليدية والتراث المحلي.
من ناحية أخرى، نجد نجاح الأنظمة الأحادية في تصوير الأنظمة التي أسقطتها، بأنها تمثل الرجعية والارتهان للمستعمر، وأصبح النموذج الناصري، المتمثل في إلغاء التعددية الحزبية لمصلحة الحزب الواحد، هو النموذج الأمثل للانقلابيين العرب.
كل ذلك أدَّى إلى إعادة المجتمعات إلى مراحل سابقة لقيام دولة تحتكم للدستور، وتقودها نخب مدنية متمثلة في بالأحزاب والنقابات والجمعيات.
اللحظة الراهنة
يربط الكاتب في النهاية ما بين أنظمة الحكم الأحادية وحُكام المماليك في القرن الثامن عشر، من حيث كونها عصبة أو جماعة تتسلط عن طريق امتلاكها أدوات القمع واجهزة الأمن، كما أنها تعلو فوق كل مُحاسبة. وما الربيع العربي، الذي قام في هذه الدول، إلا كاشف لزيف مقولاتها وأيديولوجياتها، كمبرر لاستمرارها. كما سقطت عدة وجوه وأدوار أخرى، كالأحزاب الهشة، والمثقف عديم الدور، والمؤسسات الثقافية الشكلية من دون المضمون.
ويرى الكاتب أن المعيار لولادة فكر عربي جديد يكمن في تجاوز الأيديولوجيات المُعادية للغرب، والتخلي عن نظريات المؤامرة على العرب والمسلمين، وخلق جيل مثقف، يتمتع بالاستقلال بالرأي، وموازنة المصالح، إلا أن ذلك يتطلب وقتاً وزمناً يستوعب هذه التحولات.