
كتب المحرر الثقافي:
هل كان «أمير الشعراء» أحمد شوقي منفصلاً عن قضايا الشعب المصري؟
وهل كانت هموم الأمة العربية في وادٍ، بينما شعره في وادٍ آخر؟
وهل يصدق عليه ما نعته به بعض النقاد، من كونه ربيب القصور وشاعر السلطة السياسية في عصره؟ وما سر الهجوم الكاسح لعميد الأدب العربي د.طه حسين عليه، حتى وصل الأمر إلى تجريده من الثقافة الموسوعية والحداثة، وفق منطلقات عصره؟
كل هذه الأسئلة وغيرها أجابت عنها ندوة المكتب الثقافي المصري في الكويت، التي أقيمت أخيراً بعنوان» تأملات في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي»، وأدارها الشاعر محمد توفيق، وتحدث فيها أستاذ الأدب والنقد في جامعة الخليج د. أيمن بكر، ثم اختتمها الفنان العراقي علي الورد، بأغنيات من شعر شوقي ومعزوفات موسيقية.
بداية، قال د.أيمن بكر في ورقته التي حملت عنوان» تأملات في فكر شوقي»: «كان الغرب الأوروبي هو حامل لواء التقدم التكنولوجي والمدني المبهر بالنسبة للشرقيين في ذلك الوقت، فمثلت حواضره الراقية بكل مباهجها نموذجا شهيا للمفكرين العرب، ونشأ لدى النخب العربية الازدواج الشعوري المشهور تجاه الغرب، نكرهه ونحبه، أو نخاصمه ونشتهيه في الوقت نفسه».
وأضاف: «إنه الازدواج الذي حاول الكثيرون تجاوزه عن طريق معادلة التوفيق بين إدراك التقدم المعرفي والتكنولوجي واستخدامه من ناحية، والمحافظة على التقاليد العربية الإسلامية من الناحية الأخرى».
وتابع: «المعادلة نفسها نجدها عند أحمد شوقي، الذي كان أحد المبتعثين بأمر الخديوي توفيق لدراسة القانون في فرنسا، وهو الخارج من بلد يخضع لاحتلال إنكلترا، التي تمثل الوجه الآخر لفرنسا في الفترة الاستعمارية».
وأشار إلى أن شعر شوقي يتجاور الحس القومي والإسلامي المتمسك بالقيم التي تشكل خصوصية ثقافية عربية، ونبرة الإعجاب الواضحة بالغرب: أعلامِه وحضارتِه ورموزِه السياسية.
طه حسين وشوقي
وتطرَّق بكر إلى مفهوم الشعر بين شوقي ود.طه حسين، قائلاً:
يرتبط تصور الشاعر لمفهوم الشعر بطبيعة تكوينه الفكري ومدى استيعابه لتراث النوع في ثقافته الخاصة معا، من هنا ينبني تصوره لطبيعة الشعر ووظيفته، على حد سواء، التصور الذي يبدو أن د.طه حسين والشاعر أحمد شوقي لا يتفقان على كل تفصيلاته، ونلمح الاختلاف بداية من انتقاد الأول لسطحية معرفة شوقي بالموضوعات التي يتناولها، ثم تصريح د.حسين بعد ذلك، بأن «فقه الشاعر الكبير تقدم في قرن ونصف تقدما عظيما»، وهو التصريح الذي يمكن أن نقرأه بوصفه إعلانَ اختلافٍ في التصورات حول ماهية الشعر ووظيفته .
ويرى بكر أن شخصية شوقي تشكلت – في نصفها التأسيسي الأول على أقل تقدير- عبر هذين العنصرين: التزامه برؤية القصر ومواقفه، وتحصيله المعرفي النظري عبر النصوص، أي عبر اللغة التي كان يملك ناصيتها، لكن ليس عبر التجربة الحية في العالم، وهما عنصران مرتبطان بصورة عميقة، حيث توجهت المعرفة التي حصلها شوقي نحو التوافق مع توجهات القصر وعدم التناقض معها.
نشأة مترفة
ثم عرج بكر على نشأة شوقي المترفة بالقول: تشير بعض القصائد إلى انفصال شوقي في بداية حياته عن الشعب المصري، بحيث يبدو جزءاً من بنية السلطة السياسية التي صنعت من الرموز الشعبية آخر مناوئ لاستقرار الحكم.
ومع هذا، ومع التحرر النسبي من علاقته بالقصر، نجد شوقي يقترب من الحس الشعبي الوطني، ويحاول التعبير عن القاعدة العريضة من الناس، ولنتأمل كيف انفعل بعد حادثة دنشواي، حيث كتب في ذكراها قصيدة تصور بشاعة ما لاقاه الفلاحون المصريون على أيدي الجنود الإنكليز في هذه القرية، ساعيا من خلالها إلى نيل العفو عن سجنائها.
خدمة القصر
وأضاف: «تعرف شوقي على العالم في مطلع حياته بأمرين، أظنهما شكلا تلك العدسة التي تتوسط علاقته بالعالم: الأول، هو تبعية الشاعر وتسخيره لإمكاناته التعبيرية في خدمة القصر، فقد ظل شوقي مجرَّد أداة تعبيرية في يد الخديوي عباس، لما يزيد على عشرين عاما، تشكلت فيها طريقته في استقبال العالم والتعبير عنه.
الأمر الثاني الذي شكل تلك العدسة، هو النصوص، التي كوَّن عبرها شوقي ثقافته ومواقفه تجاه تراثه وحاضره، على حد سواء؛ إذ قضى طفولته وشبابه في الدراسة النظرية، ميالا للعزلة، بعيدا عن الاختلاط بعوالم أقرانه في الجامعة، كما يصفه أحد زملائه، ثم حين التحق بخدمة الخديوي، وأصبح حبيس القصر، مع ما أتيح له من كتب بلغات مختلفة كان يجيدها، فقد أجاد شوقي غير العربية كلاً من التركية والفرنسية، كما يُرجح أنه كان على إلمام باليونانية والإنكليزية، وحين سافر إلى فرنسا ذهب سجنه النظري معه، فقد كان تحت رعاية ناعمة وقاسية في الوقت نفسه من الخديوي، الذي حرص على إحاطة شاعره بجو من العناية يشبه ما عاشه في القصر، مضيّقا بذلك عليه مخاطرة التجربة الحياتية الحرة، المخاطرة التي كان من شأنها أن تكسر حدود التعرف النصي النظري على العالم».
وقال بكر: «أمضى شوقي فترة وجوده في فرنسا بين الكتب، متعرفا على تراث الأدب الفرنسي بالطريقة نفسها التي تعرف بها على تراث الأدب العربي، وبين المتاحف التي تمثل أيضا نوعا من النصوص البصرية المجسمة، وبين مجموعة محدودة من المصريين، ومن زملاء الدراسة الفرنسيين الذين عرّفوه على الحياة الريفية في فرنسا، وهو تعرف اجتماعي محدود بطبقة معينة لم يكن الأدب وقضاياه همّها الأول».
وأردف: «هذا لا يقلل إطلاقا من المنجز الشعري الهائل الذي أبدعه شوقي في الكثير من القضايا والأحداث، كما أنه طرق جميع أبواب الأغراض الشعرية، وكان امتداداً حقيقياً لفحول شعراء العربية».