
بلغني خلال وجودي خارج البلاد خبر حكم محكمة التمييز بتصفية جريدة الطليعة تصفية نهائية، وكان الخبر بقدر كونه مؤلما، إلا أنه في المقابل كان دافعا للتأمل.
حين علمت بالخبر، جرني التفكير للحالة الرديئة التي نمر بها، فـ«الطليعة» ظلت، وستبقى، تحمل بعداً رمزياً مبدئياً تاريخياً لا يتوفر لأي مطبوعة أخرى، فلم تكن مجرد منبر إعلامي، ينقل الخبر والتحليل، بل محطة وطنية عامة، شاركت في صياغة الحدث وصناعة مسارات التنمية.
كذلك لا يخفى على أحد أن «الطليعة» كجريدة عانت، منذ زمن طويل، ومازالت تعاني من مشاكل مالية وترتيبات إدارية، أعاقتها عن أداء رسالتها المبدئية في الانتصار للعدالة والديمقراطية وحرية التعبير.
إلا أن الأمر في جوهره يبتعد عن ذلك بكثير، فـ«الطليعة» لها بعدها الرمزي، بكل بما تحمله وحملته من هموم هذا الوطن الصغير، أو الوطن العربي الكبير، أو هموم العالم.
من تابع «الطليعة» عبر تاريخها، يدرك جيدا أنها واكبت أحداث وتطورات ومتغيرات الحالة السياسية الكويتية، كما عاصرت كل الأحداث على المستويين العربي والعالمي، من منظور مختلف عن الإعلام السائد الخبري، فكانت ضمن الناس، وفي وسطهم، صاحبة مصلحة في التغيير، ومؤثرة فيه.
لم تكن «الطليعة» بلا أخطاء أو نواقص تنتقد عليها، فهذا ديدن أجهزة الإعلام عموماً، لكن الملاحظ عليها أنها تتغير وتتجدد وتتحول نحو الحقيقة بصورة ملحوظة، وفي المحطات الأخيرة، مثلا، وأعني من بعد تحرير الكويت عام 1991 حتى صدور الحكم الأخير بالتصفية، كانت الطليعة واضحة في موقفها في الانتصار للديمقراطية والدستور، وكشف الاعتداءات على المال العام دون تردد أو مواربة، ودفعت مقابل ذلك تضحيات كبرى لا جدال فيها.
وبصورة عامة، كانت «الطليعة» في زمن ما قبل الغزو 1990، وحتى ما قبل الاستقلال، مساهما أساسيا في حركة التحولات الديمقراطية، وفي رفع الوعي بالممارسة الديمقراطية، وكشف الاعتداءات على الدستور، التي تكررت بأشكال مختلفة، وكان لها لذلك السبب أن تتعرض للإغلاق والمحاكم والتهديد، لكنها كانت دائما تخرج صامدة، حافظة لكرامتها، ولعقول الناس، وكانت دوما المعيار الذي تقاس به الحصافة، والموقف الوطني المبدئي.
وربما كانت «الطليعة» هي التي رفعت سقف الحريات بتصديها للقوانين المنافية للدستور والمناقضة للحريات، والتي أدت في نهاية الأمر إلى استقالة النواب الثمانية احتجاجا، وما أداه ذلك إلى البدء في التحضير لانتخابات 1967، وتشكيل كتلة واسعة باسم «نواب الشعب»، التي كانت على وشك الحصول على مقاعد أغلبية البرلمان، فتدخلت الحكومة بشكل مباغت ومكشوف لتزوير الانتخابات، ما أدى إلى استقالة نواب من المجلس، وظلت «الطليعة» مستمرة في كشفها لتلك التعديات دون توقف.
و»الطليعة»، على سبيل المثال، هي التي قادت المعركة الإعلامية ضد ما عرف حينها باتفاقية «تنفيق العوائد»، في حين كانت الشركات الأجنبية تضغط باتجاه قبولها، كما وقفت حجر عثرة في كشف الخلل الذي تضمنته اتفاقية المشاركة مع الشركات النفطية، ولها السبق في التصدي لموضوع المشاركة النفطية وتنفيق العوائد، وكان لـها إسهاماتها البارزة في الدفع إلى تأميم النفط عام 1975.
إذاً، نحن لا نتكلم عن وسيلة إعلامية ترصد الخبر وتحلله وتوصله للقارئ فحسب، بل نتحدث عن ذاكرة وطن ضمن التزام مبدئي.
بالطبع نحن في نهاية 2015 والبدائل التكنولوجية مفتوحة ومتاحة، لذا صار على «الطليعة» أن تطور موقعها الإلكتروني، على الأقل في هذه المرحلة، حتى يتم ترتيب القادم من الأيام.
غياب «الطليعة» لن يكون مجرد توقف وسيلة إعلامية، فمنذ صدور قانون المطبوعات الجديد، زاد عدد الصحف اليومية على 16 صحيفة، توقفت منها 7 لأسباب مختلفة، لم يستشعر أحد غياب غالبيتها، إلا أن «الطليعة»، ورغم أنها أسبوعية، سيخلف غيابها فراغا محسوسا، نتمنى ألا يطول.