
ترجمة: ظافر قطمة
تناولت صحيفة نيويورك تايمز في تعليق بقلم إيف فيربانكس نشرته الأسبوع الماضي قضية الاحتجاجات الطلابية، التي اجتاحت العالم في الآونة الأخيرة، واعتبرتها ظاهرة لافتة يمكن أن تغير مسار السياسة في العديد من الدول، خصوصاً الأفريقية.
وقالت المعلقة إنه وقبل وقت غير طويل من انتقالها من الولايات المتحدة الى جنوب أفريقيا، منذ ستة أعوام، خرجت للتنزه في مدينة تدعى بلومفونتين، التي تتمتع بمركز تجاري عالي المستوى، يعكس طموحات المستوطنين البيض في ذلك البلد. وكانت الجادات تبدو مثل الطرقات العامة، وترتفع فيها المتاجر بصورة لافتة، وتطل تماثيل القادة العسكريين والسياسيين من عهد حكم الأقلية البيضاء الغابر على زوايا الشوارع.
ولكن نوافذ الأدوار العليا في تلك المتاجر كانت مظلمة – وعندما انتهى عصر الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عام 1994 أصبح المركز التجاري الذي كان يقتصر على الأقلية البيضاء فقط وبصورة سريعة خاضعاً لهيمنة السكان السود، وتحولت تلك المتاجر الى صالونات لتصفيف الشعر وكنائس وخياطين يبيعون الملابس المفضلة من قبل الأكثرية السوداء في المدينة، كما يفضل أولئك الباعة أن يشاهدوا على مستوى الشارع.
أحلام عصر سابق
وتقول: «لقد ذكرتني تلك المتاجر بالأزهار، التي تنتشر من بدن حطام السفن، وقد ظهرت فوقها هياكل أحلام عصر سابق، الذي كتب عنه المستعمر البريطاني الشهير سيسيل جون رودس عام 1877، يقول: نحن، الأنغلو – ساكسون، العرق الأرفع في العالم، وكلما ازداد استيطاننا في العالم كان ذلك أفضل للجنس البشري».
وزادت: «شعرت برعب من الطريقة التي تكيفت بها الأكثرية السوداء في جنوب أفريقيا، التي حظر عليها المشاركة في مراكز السلطة لسنوات عديدة نتيجة الفصل العنصري، وبشكل سريع جلي، مع البنية التحتية التي كانت موجودة هناك في الأساس، وقد عدلت تلك الشريحة بحيث تستخدم لأغراضها الخاصة النابضة بالحياة، لكنني تساءلت أيضاً كيف كان الشعور بالنسبة الى من يعيش في أبنية شيدها المضطهد السابق وضمن تماثيل أبطال ذلك العصر، كم سيطول نظرهم الى تلك التماثيل وعدم التوجه الى تمزيقها؟».
وتبين أن الوقت لم يكن طويلاً للقيام بذلك العمل، فقد تعرضت جنوب أفريقيا لهزات عنيفة في هذه السنة نجمت عن احتجاجات على هذه القضية المحددة: كيف يمكن العيش مثل شعب حر في البنية التحتية التي تعود الى الماضي؟ وكان النزاع مجازياً أيضاً. وفي شهر مارس، طالب طلاب جامعة كيب تاون بإزالة تمثال رودس من الحرم الجامعي.. وتحقق ذلك في شهر أبريل، وطالب الشبان بإزالة التماثيل الأخرى الخاصة بالأبطال المستعمرين في كيب تاون والعاصمة بريتوريا.
وفي شهر أكتوبر، وبعد زيادة الرسوم الدراسية، قاطع طلاب الجامعات في شتى أنحاء البلاد صفوف الدراسة، قائلين إن الرسوم الأعلى ستلحق الضرر بالفقراء – ومعظمهم من السود – وإن الجامعات لا تزال تعطي الأولوية للتاريخ والأدبيات والاحتياجات العاطفية للطلبة البيض وليس لزملائهم السود.
ومضى التعليق قائلاً: إن تلك الاحتجاجات كانت تشبه بصورة لافتة ما تشهده الآن الولايات المتحدة. ويقول الطلاب في جنوب أفريقيا إن الجيل الأقدم من النشطاء قد خانهم. وفي جامعة ويتووترسراند في مدينة جوهانسبرغ أحاط الطلبة السود، وهم يذرفون الدموع، أحد كبار الإداريين – وهو ملون أيضاً – كما فعل الطلبة المتألمون في جامعة ييل مع جوناثان هولواي، وهو أول معيد أميركي من أصول أفريقية في الساحة الرئيسية.
احتلال المبنى الإداري
وقال التعليق إن الطلبة في جامعة ستيلنبوش خارج كيب تاون احتلوا أحد المباني الإدارية تماماً، كما فعل عدد من الطلبة السود في جامعة تاوسن في ماريلاند خلال شهر نوفمبر. والجدال يتمحور حول ما إذا كانت أبنية برنستون، التي سميت تيمناً باسم وودرو ولسون، تعكس الصدى المؤلم للطلبة السود لحديث جامعة كيب تاون حول تمثال رودس فيها.
في الولايات المتحدة كان الناس يتحدثون عن الاحتجاجات الطلابية، كما لو أنها كانت ظاهرة أميركية بصورة خاصة، إما نتيجة الإرث التمييزي للعنصرية الأميركية أو، كما قد يقول النقاد عنها، نتيجة ثانوية للتضخم واستحواذنا الثقافي إزاء التوكيد. ونحن ندلل صغارنا – كما تقول الرواية – وهم يطلبون الآن الشعور بالأمان من أي نوع من الخطر لأنهم ضعفاء.
ولكن كيف يمكن تفسير حدوث هذه الظاهرة ذاتها في نصف العالم، في مجتمع يعرف بغياب الآباء وليس بوجود آباء مفرطين في الحماية؟
في حقيقة الأمر، إن كل هؤلاء الطلبة – سواء كانوا في أميركا أو جنوب أفريقيا – يتقدمون بمطالبهم لأنهم يشعرون أنهم أصبحوا أكثر قوة. وفي جنوب أفريقيا يشكل الطلبة السود الأكثرية في معظم الجامعات، وهم يرغبون الآن في انتقاد جامعاتهم، ويطالبون بإدارة تهتم بأولوياتهم المالية والعاطفية وبعد تكريم التماثيل والأبنية الخاصة بجامعاتهم لأشخاص ارتبطوا بتاريخ من حرمان السود، وهم لم يعودوا سعداء برؤية مركز دراسات جامعية أسود مكرس للأفكار الثقافية للسود يذكرهم بأن الفكر الزنجي لا يزال يعتبر من قبل الأكاديميين نقطة معاكسة وثانويا بالنسبة الى الفكر ذاته.
مطالب لا تحتمل المساومة
وهم يطرحون هذه الانتقادات على شكل يمكن أن يبدو مثل مطالب ملحة لا تحتمل المساومة، وهذه الاندفاعة تنطوي على توق: أن نكون من يقرر الأمور في عالمنا وليس من يطالب بالتغيير بعد الآن.
وقد ركزنا في أميركا على أول كلمة في الجملة التي تقول «الفضاء الآمن»، وكان علينا التركيز على الجملة الثانية. ومسيرات احتجاج أولئك الطلبة تتمحور حول الفضاء ومن الذي يستخدم السلطة ضمنه.
إنها شريحة أصغر من طائفة أكبر من الاحتجاجات التي تندلع الآن في شتى أنحاء العالم. وفي هولندا سارت الاحتجاجات ضد زوارت بيت، وهو الوجه الأسود الذي يبرز استعراضات عيد الميلاد في ذلك البلد. ويجادل من يدافع عنه في أن أصوله لم تكن عنصرية، وكانت فكرة الطرف الآخر هي: من أنتم حتى تقرروا؟ وفي أستراليا، تظاهر الناس في ملبورن ضد خطوات التأشيرات العنصرية التمييزية العشوائية. وفي البرازيل، ظهرت حركة حقوق مدنية جديدة من أجل إعطاء الأرض الى من يتحدرون من العبيد السابقين. ويمثل الطلاب الذين يعترضون على أبنية بينوشت، التي سميت تيمناً بولسون، زاوية من حركة ثانية عالمية ضد العنصرية، وقد تكون لا تزال في بداية الطريق، وهذه الحركة تعارض ليس من يملك الحق في الوصول الى ساحاتنا العامة، كما فعلت حركات الحقوق المدنية الأولى، بل من يملك تلك الميادين.
في جنوب أفريقيا
في جنوب أفريقيا، توجد فكرة تحوم حول الوعي الوطني منذ تأسيس أول حكومة ديمقراطية لنلسون مانديلا عام 1994: دعيت «المرحلة الانتقالية الثانية» باسم «الثورة الثانية» أيضاً. ولم يكن شعب جنوب أفريقيا واثقاً تماماً ما الذي سينطوي عليه ذلك، ما عدا الشعور بحتمية حدوث ثوران آخر سياسي واقتصادي واجتماعي وحتى نفساني ومعنوي بقدر كبير. وبالنسبة الى العديدين – وحتى لبعض مهندسي التحرر السود – كانت فكرة مرعبة، فقد كان إنجاز الثورة الأولى مؤلماً جداً.
وعلى الرغم من ذلك، كان تنافر الحياة اليومية في فترة ما بعد الفصل العنصري في ذلك البلد على درجة من القسوة، بحيث يصعب تجاهله، وكان العمال السود الذين يتوجهون من محطة قطارات كيب تاون يمرون أمام جزء من أبطال القرن التاسع عشر العسكريين البيض. وغدت مناهج المدارس الثانوية في جنوب أفريقيا موضع مراجعة الآن، ولكن خلال حقبة الـ 2000 درس الطلبة السود التاريخ الذي بدأ في القرن الخامس عشر كما لو أن الأماكن وجدت مع الاتصال الأوروبي. وبغية إضفاء الجدية على وجودهم، يشعر الحرفيون من الشبان السود بضغوط من أجل «النطق بلهجة» أو التحدث بنبرة «البيض» بقدر أكبر في العمل. في سنة 1994، حقق السود حريتهم، ومع ذلك لا يزالون يعيشون في مجتمع يشدد على أن تاريخ البيض وعاداتهم هو الذي يجب أن يحترم، ولكن الكل يعرف أن العديد من جوانب المجتمع نفسه يجب أن تتغير عاجلاً أم آجلاً.
المساواة ودروس القرن العشرين
طوال نحو خمسين عاماً – ومنذ حركة الحقوق المدنية عندنا – كنا نرى أن المساواة على شكل التسامح والتكامل هي ذروة العدالة. وكنت أتساءل في بعض الأوقات إذا كان ذلك ينبع – في جزء منه – من الإعياء والتعب في أعقاب النزاعات الطاحنة التي حفل بها القرن العشرون. وقد أردنا أن نعتقد أن في وسعنا تحقيق مجتمع من دون صراع على السلطة. وكان ذلك سذاجة – لأنه انطوى على التظاهر بعدم وجود ما يطلق عليه الثقافة العامة والأرض أو الرغبة في رؤية أنفسنا، وقد تمثلنا ضمن تلك الصورة بشكل متعادل ومتكافئ.
ومع تغير الديموغرافيا الأميركية، وبعد أن أصبح الناس الذين كنا ذات مرة نعتبرهم أقلية أكثر بروزاً في الحياة العامة لم يعد في وسعنا مطلقاً اجتناب ظهور نسختنا من المرحلة الانتقالية الثانية.
وحتى في جنوب أفريقيا، يوجد شعور بأن ذلك البلد لا يزال في بداية ثورانه – وفي حالة قد تنطوي على خطر. وقد هدد ذلك بإزالة ثقافة، وزرع الغضب والانقسام بين السود والبيض الذين لا يزالون – في طرق لا تعد ولا تحصى – يعتمدون على بعضهم بعضاً، وفي حاجة متبادلة معاً.
ولكن بلومفونتين، حيث خرجت للتنزه بعد وقت قصير من وصولي الى جنوب أفريقيا، كانت تحتوي على مؤشرات حول كيفية تدبر عملية إعادة طرح قضية هذه الثقافة. ويوجد في جامعة فري ستيت مهجع يدعى كاري، وقد تمت تسميته نسبة الى شجرة صحراوية في جنوب أفريقيا. وفي أواخر حقبة الـ2000 بدأ مجلس طلبة المهجع مشروعا ًيهدف الى إجراء جدال وإعادة النظر في كل عنصر من عناصر ثقافة المهجع، من الصور التي رفعت على الجدران الى طرق الاحتفال بأيام الأعياد وحتى أوقات تناول الشاي بعد الظهر.
وقبل أن يبدأ هذا المشروع، ظن الناس أنه سيخلو من البهجة – وكان كذلك بالنسبة الى بعض الطلبة، ولكن بالنسبة الى آخرين، بمن فيهم من لم يتوقعوا الاستمتاع به، فقد كان مذهلاً الى حد كبير. وكانت هذه الشريحة – من البيض والسود – هي من قدم صورة فضول إزاء هذا الجهد، في ما يتعلق بها وبالآخرين المقيمين في المهجع المشار اليه. وكان الاستماع هو الذي شكل الفارق. لماذا كانت هذه اللوحة مهمة بالنسبة لي؟ لماذا كانت تلك الطقوس ذات قيمة بالنسبة لك؟ ما الجذور والأحلام التي نتشاطرها؟.. أسئلة تنتظر الرد.