
كتب محرر الشؤون الدولية:
الحرب الكلامية التي يدور رحاها منذ فترة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، اتخذت طابعا شخصيا، ودخلت مرحلة «اختبار قوة» عنيف بين «السلطان» و«لقيصر»، بات يهدد علاقات البلدين اللذين تربطهما مصالح اقتصادية مهمة بمئات مليارات الدولارات، تبدو الآن في مهبّ القطيعة وتمزيق الفواتير.
فمنذ أن أسقطت تركيا في 24 نوفمبر الماضي مقاتلة روسية على الحدود السورية، انتهكت بحسب أنقرة مجالها الجوي، اشتعلت حرب اتهامات بين بوتين وأردوغان انتقلت إلى التهديدات والشتائم، وبلغ التوتر ذروته بين الرجلين بتأكيد بوتين أن «زمرة» أردوغان بما في ذلك أسرته متورطة في تهريب النفط الخام الذي يستخرجه تنظيم داعش في سوريا، ورد أردوغان بأنها «افتراءات» متهما موسكو بذلك، ووفقا للمحللين فإن الحرب الكلامية بين الزعيمين لن تهدأ في مستقبل منظور، وسرعان ما انهار «زواج المصلحة» بين الأتراك والروس، إذ قررت موسكو إعادة فرض تأشيرات دخول على السياح الأتراك، وجمدت مشروع السيل التركي، وفرضت حظرا على استيراد الخضار والفاكهة.
هروب أميركي
في غضون ذلك، كان لافتا أن الولايات المتحدة «نأت بنفسها»، وتركت حليفها أردوغان وحيدا في مواجهة تهديدات بوتين، في وقت كانت تراهن فيه أنقرة على دعم أميركي غير محدود للتغلب على سلسلة العقوبات الروسية. جاء ذلك بعد أن أوقفت واشنطن مؤخرا، وفي هدوء تام، طلبا قديما لها بأن تقوم تركيا بدور أكثر فاعلية في الحرب ضد «داعش».
واعتبر مراقبون أن هذا الموقف يسحب من تركيا أي مبرر لتحريك قواتها على الحدود السورية، فضلا عن تحديد مساحة تحرك طائراتها في المجال الجوي السوري بزعم استهداف مواقع «داعش».
وبات من الواضح أن الخطوة الأميركية تأتي لاسترضاء موسكو، وكسب ودها، خاصة أنها أصبحت اللاعب الرئيسي في المشهد السوري، وأن أي تحرك عسكري أو سياسي ينبغي أن يمر عبرها. في المقابل، فإن تركيا ستتقبل الموقف الأميركي في ظل ضآلة الخيارات لديها.
وزادت واشنطن تأزيم وضعية حليفتها أنقرة حين تبرأت من مبررات وجود قوات تركية داخل العراق لتدريب قوات البيشمركة في سياق الحرب على داعش، وهو ما سمح بهجوم دبلوماسي عراقي كبير على الأتراك، مطالبا إياهم بالانسحاب الفوري.
وعزا متابعون للشأن العراقي إثارة بغداد هذه القضية بشكل قوي إلى وجود أزمة أخرى ناجمة عن رعونة تصريحات الرئيس التركي ضد حليفتها طهران، وأن الأمر له علاقة بالتحالف الروسي الإيراني في سوريا، ورغبة البلدين في بقاء الأسد بالسلطة، وكان أردوغان اتهم إيران بأنها تقف إلى جانب روسيا في توجيه التهم لبلاده.
وقد يؤدي الغضب الإيراني من تصريحات أردوغان إلى إفشال سياسة الvأخير، التي اعتمدت السير على الحبال المختلفة خلال السنتين الماضيتين، فقد كان يتقرب من موسكو وطهران، ويبني علاقات قوية معهما، وفي الوقت نفسه كان يهاجم الرئيس السوري بشار الأسد ويدعم معارضيه، لاسيما المجموعات الإسلامية المتشددة.
وفي خط آخر، كان أردوغان يقدم نفسه صديقا لأميركا، ويفتح قاعدة أنجرليك أمام طائرات غربية لقصف «داعش»، لكنه في النهاية لم يكسب هذا الفريق أو ذاك، كما فشلت خطته لتسويق نفسه كبديل سني داعم للأميركيين وقادر على تحريك سنة المنطقة وراء المصالح الأميركية، مستفيدا من علاقاته المثيرة للشك والارتياب مع المتشددين الإسلاميين، خصوصا جماعة الإخوان المسلمين التي وسّعت الخلافات بينه وبين دول سنية مركزية.
وإذا كانت علاقات تركيا مع مصر وصلت إلى طريق مسدود، فإن محاولاته للتقرب من السعودية لم تتجاوز مجرد حسن النية. لكن الموقف من اليمن، وخاصة التنسيق التركي الإيراني لبحث تأهيل الحوثيين أفشل رهان أردوغان في التحالف مع السعودية، لأنه لا يهدف إلى دعم سنة العراق وسوريا في مواجهة التمدد الإيراني، بل كانت غايته اختراق الموقف الخليجي من الإخوان.
البديل القطري
في نهاية المطاف، لم يجد أردوغان بداً من التلويح باعتماده على حليفته قطر، كمزود لبلاده بالطاقة بديلا عن موسكو، حيث أعلن في خطاب متلفز مؤخرا خلال زيارته للدوحة أنه «من الممكن إيجاد مصادر أخرى».
وروسيا هي مصدر الطاقة الرئيسي لتركيا، إذ تزودها بـ55% من احتياجاتها من الغاز، و30% من احتياجاتها النفطية، وتستورد تركيا 90.5 % من نفطها، و98.5% من الغاز الطبيعي، ويرى مراقبون أن تركيا ستتجه إلى قطر لتعويض خسائرها الاقتصادية جراء العقوبات الروسية.
وتعتبر الدوحة تقريبا الحليف الوحيد لتركيا في المنطقة العربية، حيث تتشاركان تقريبا نفس الرؤية تجاه قضايا المنطقة، وتتبنيان نهجا يقوم على إيصال ما اصطلح عليه بالإسلام السياسي إلى السلطة في الدول العربية التي شهدت وتشهد اضطرابات.
ورغم اللهجة الحادة التي يبديها أردوغان في مواجهته مع روسيا إلا أنه لا يريد في واقع الأمر استمرار هذا التصعيد الذي سيكلفه الكثير وخاصة اقتصاديا.