علي سلامة الحربي : الحداثة والتحديث

مراقبالحداثة منظومة من المفاهيم والعناصر، التي تكوّن في محصلتها مجتمعاً متطوراً، تساهم في بناء الدول والمجتمعات والنشاطات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما أنها تستخدم العقل والعلم والتقنية، بحيث يمكن للإنسان أن يسخر الطبيعة لمصلحته ويسيطر عليها.

وترتكز الحداثة في جانبها الفكري على استخدام العقل وتحكيمه، لا على النصوص الدينية، وفي جانبها السياسي أيضاً ترتكز على الديمقراطية، أي إقامة نظم سياسية تبنى على أساس تداول السلطة، وتنطلق على احترام حرية الفكر والتعبير والتنظيم، بلا قيود أيضاً، وهي الوعي بالمرحلة التاريخية، التي تقيم علاقة مع الماضي، من أجل أن تفهم ذاتها، باعتبارها نتيجة لنوع من الانتقال أو العبور من الماضي إلى الحاضر.

تتبنى الحداثة العقل والعلم، وتنتقد الموروث الديني، ويطالب بعض مفكريها بإلاصلاح الديني، واستقلال الفرد وحقه في التفكير بالمستقبل، من دون فرض وصاية، وقد أطلقت الحداثة شرارة ثورة، فتحوَّلت الإقطاعية إلى دول حديثة، ومن نظم سياسية قمعية إلى ديمقراطية، ودعت إلى ترك عالم الخرافات إلى عالم العقل.

وعلى الرغم من أننا في القرن الواحد والعشرين، لكننا إلى الآن لم نصل إلى مشروع الحداثة في الوطن العربي، بل تبنت الأنظمة التحديث بدل الحداثة، والمقصود بالتحديث استخدام التقنية، أي قبِلتْ بالبنية التحتية والاستهلاكية الخاصة، لكنها رفضت أخذ الحداثة كمنظومة كاملة، وهذا ما أكده المفكر يورغن هابرماس، عندما وجه له سؤال عن حال الشرق الأوسط، فكان رده، أن الأنظمة العربية لم تعر اهتماما للحداثة، واهتمت بالتحديث باستخدام التقنية لحماية عروشها، والجواب كان هنا منطقياً، لا يمكن لأنظمة كهذه أن تستمر، ما دام أنها تتبنى هذا النهج السيئ، في ظل دول أخرى تبني نفسها كدول متقدمة وعظمى، وهذا لا يأتي إلا عندما تتبنى الحداثة تفعيل العقل والعلم وترك عالم الخرافات والتخلف.

لا يمكن اليوم أن نصل إلى الحداثة لأسباب، سأذكر منها اثنين:

الأول، عزل قوى مثقفيها لغايات سياسية ونزاعات شخصية، فنحن نعاني اليوم اختفاء نخبة مثقفة قادرة على قراءة المرحلة التاريخية وأبعادها والنقلة لمشروع ضخم كالحداثة، حيث الفضاء العام الآن يسوده فراغ نخبوي حقيقي لا يجامل من أجل غايات سياسية.

الثاني: سيطرة قوى رجعية في مجتمعاتنا وتغييب العقل، وهذه علة، حيث إن العقلانية هي مبدأ للحداثة، ولا حداثة من دون أساس عقلاني، وهذا لا يتفق مع القوى الرجعية، ولا تتبناه، حيث إنها تغيب العقل، وتستخدم الأسلوب اللاهوتي للسيطرة على المجتمع، كالغنم، وهذا ما نرفضه، انطلاقا من أننا لا نرى أن الإنسان وُلد لكي يكون مسيراً، بل ولد حُراً، أكرمه الله بالعقل، ليفكر به، ويطور من حال المجتمع.

تحالف الأنظمة مع القوى الرجعية، وموت التيار الوطني وانشغاله بالخلافات، سيغيب مشروع الحداثة، ولن يجني لنا ذلك إلا الهلاك والتدمير، وما نعيشه من صراعات في الإقليم، والفساد المستشري داخل منظومة الدولة إداريا، ومالياً، خير شواهد على ما استدل به.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.