مقاطعة مولنبيك البلجيكية.. مركز التطرف الأوروبي

هجمات باريس كشفت اختلالات أمنية رهيبة
هجمات باريس كشفت اختلالات أمنية رهيبة

ترجمة: ظافر قطمة
تناولت صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام، بالتحليل، هجمات باريس الأخيرة، ونشرت تعليقا بقلم شمس الدين زاوغوينوف، وهو عالم دراسات عربية من كُتاب الصحيفة البلجيكية «دو ستاندارد»، قال فيه إن الهجمات الصادمة والدموية التي شهدتها باريس في 13 الجاري تركت أثراً يشير إلى بلجيكا، وبشكل أكثر تحديداً إلى عاصمتها (بروكسل)، وإلى مقاطعة معينة فيها تدعى مولنبيك.

ويقول التعليق إن نحو 40 في المائة من سكان هذه المقاطعة الصغيرة المائة ألف، من المسلمين، ونحو ثلاثة أرباعهم من أصول مغربية.

ويعود تاريخ هذا المجتمع إلى ستينات القرن الماضي، حين أفضى الطلب على اليد العاملة إلى موجة مهاجرين من المغرب.
اللافت حول بروكسل، أنها – بخلاف باريس، حيث تحظر أحياء المهاجرين – تحتضن تلك الأحياء في قلب المدينة. كما يسهل الوصول إلى مولنبيك بالحافلات أو المترو، وهي تبعد مسافة 25 دقيقة سيراً على الأقدام عن مركز المدينة.

كانت مولنبيك في الأصل مقاطعة معامل تقع عند سلسلة قنوات وسكك حديدية في بروكسل – تعرف باسم «مانشستر الصغيرة»، بسبب تركيز الصناعات فيها، وفي نهاية المطاف أغلقت المعامل، وأصبحت مولنبيك منطقة سكنية للطبقة العاملة، وتحوَّلت إلى موطن للمهاجرين الجدد تنتشر فيه المقاهي والحانات.

موطن التآمر أيضاً

ولكن مولنبيك هي موطن الإرهابيين المتآمرين أيضاً.

فاغتيال القائد الأفغاني المناوئ لحركة طالبان أحمد شاه مسعود قبل هجمات 11 سبتمبر 2001 مباشرة، وتفجيرات القطارات في العاصمة الإسبانية (مدريد) عام 2004، ومقتل أربعة أشخاص في المتحف اليهودي في بروكسل عام 2014، وإحباط محاولة اطلاق النار على قطار سريع والغارة ضد الإرهاب في بلدة فيرفيرز في شرق بلجيكا والهجوم على سوبرماركت يهودي في باريس والهجمات الأخيرة في 13 نوفمبر في العاصمة الفرنسية.. كانت كلها ترتبط بشكل ما بمقاطعة مولنبيك.
ما الذي يجعل تلك المقاطعة مرتعاً خصباً للراديكاليين الإسلاميين؟

السبب الواضح تماماً، هو الانقسام العميق في المجتمع البلجيكي، إذ تعاني بلجيكا نوعا من التمييز العنصري في اللغة، يفرق بين البلجيكيين الناطقين باللغة الهولندية والولونيين الناطقين بالفرنسية، والاستماع إلى وسائل إعلام الطرفين ورجال السياسة فيهما يجعلك تعتقد أن بلجيكا لا وجود لها، حيث يعيش المجتمعان في انفصال تام.

الاختلال الوظيفي الإداري

ويفضي هذا أيضاً إلى اختلال وظيفي إداري: يوجد في بلجيكا ما لا يقل عن 6 حكومات؛ حكومة فيدرالية وحكومة بلجيكية لإقليم الفلاندرز وحكومة المجتمع الفرنسي وحكومة مجتمع الناطقين باللغة الألمانية وحكومة إقليم الولون وحكومة إقليم العاصمة (بروكسل).

ويتكرر هذا التشظي في السلطة السياسية على مستوى البلديات، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى أن البلاد كانت تتبع دائماً تقليداً قوياً، يقضي بوجود حكومة محلية تنبع من الاعتقاد بأن الزعماء السياسيين يجب أن يكونوا على مقربة من مجتمعاتهم ويعرفوا احتياجات مواطنيهم.. وعلى أي حال، فإن هذا التقليد عزز بيئة يكافح رجال السياسة فيها، لضمان إقطاعاتهم والحفاظ على مراكزهم.

ولا يوجد مكان تبرز فيه هذا الصورة أكثر من بروكسل نفسها، فهي تحكم مثل دولة مدنية صغيرة، ويوجد فيها 19 مقاطعة، لكل منها رئيس بلدية و6 سلطات شرطة تعمل معاً على مضض، ولا تعمل على الإطلاق في بعض الأحيان.
كما أن عدم الثقة السياسية بين رؤساء البلديات من الأحزاب المختلفة، أو بين مقاطعات المدينة الغنية والفقيرة، يترجم في بعض الأوقات إلى غياب تام في الاتصالات والتنسيق.
الفوضى المنظمة
ويدعو هانس بونته رئيس بلدية فيلففورد، وهي ضاحية شمالية في بروكسل تحتضن العديد من المقاتلين الأجانب، الترتيبات الأمنية في العاصمة «نموذجاً مثالياً للفوضى المنظمة».

ومن بين صور العجز في عمل الاستخبارات البلجيكية كان النقص في الناطقين باللغة العربية في جهاز أمن الدولة البلجيكي، والفشل في تجنيد الراديكاليين السابقين، أو حتى الأشخاص من خلفية إسلامية.
ولعلمه المحزن بهذه المشكلة، أبلغ وزير العدل البلجيكي كوين غينز، أخيراً، صحيفة دو مورغن البلجيكية اليومية، أن الحكومة الآن بصدد تجنيد محللين من الناطقين باللغة العربية: «تجنيد نوعية محددة يتطلب وقتاً. ويتعيَّن التأكد من هؤلاء الأشخاص، وعليهم اجتياز الاختبارات، ونحن نعمل لتحقيق ذلك».

خطأ تكتيكي آخر

ترك ضباط الشرطة والاستخبارات إلى حد كبير الراديكاليين وشأنهم نتيجة الافتراض بأن الجهاديين المحتملين يمكن أن تتم مراقبتهم بسهولة من قِبل مخبرين أثبت أنه خطأ تكتيكي آخر، وهي غلطة يحمّل البعض رئيس بلدية مولنبيك الاشتراكي من سنة 1993 إلى 2012 فيليب مورو اللوم بسببها، ويقول النقاد إن السيد مورو – وهو شخصية شعبية في مولنبيك – كان مسؤولاً عن سياسة النأي، خشية أن يفضي مزيد من التدخل إلى إغضاب الناخبين المسلمين في المقاطعة.

ويجادل جوهان ليمان وهو بروفيسور علم الاجتماع في جامعة لوفن في أنه من السهل جداً تحميل رئيس البلدية السابق المسؤولية: «هذه مسألة أكبر من مجرد شخص واحد»، وليمان وهو أيضاً رئيس منظمة «فوير» التي تعمل على دمج الأقليات في مولنبيك، يقول إنها مشكلة الشرطة والاستخبارات: «عندما حذرت رجال الشرطة والأمن عام 1999 من خطر الراديكالي الشيخ بسام عياشي لم يكترثوا».

ومن وجهة نظر ليمان، فإن حكومتي فلاندر وبروكسل قامتا بقدر ضئيل جداً من الجهد الأساسي، لمنع تطرف الشبان، وكان لدى حكومة الفلاندر فقط برنامجها المحدد، وهو مسؤول عن الجزء البلجيكي من البلاد.

وفي بروكسل يستطيع الناس الالتحاق ببرنامج اندماج طوعي. وتركز حكومة الولون على تكامل اجتماعي اقتصادي أوسع، لكن من دون وجود سياسة دمج محددة.
اللافت في أنشطة الجهاديين المحلية في مولنبيك، أن المقاطعة لعبت دوراً مثل نوع من معسكر قاعدة للهجمات على فرنسا، وليس على بلجيكا نفسها.
ومن الواضح أن بروكسل تعد مخبأ آمناً ملائماً على مقربة من فرنسا، الهدف الحقيقي.

إحراج السياسيين البلجيكيين

أحرجت الهجمات الأخيرة في باريس رجال السياسة البلجيكيين بشكل عميق، وقد وعد وزير الداخلية جان جمبون في الأسبوع الماضي عبر محطة تلفزيونية بلجيكية «بتنظيف مولنبيك»،
لكن التسرع بالعمل قد يفضي إلى نتائج عكسية. ومعظم سكان مولنبيك أرعبهم ما حدث في وسطهم، كما أن الحديث القاسي والتصرف الأخرق يمكن أن ينفر حلفاء حيويين في المجتمع الاسلامي.

إن بلجيكا في حاجة لرد متعدد الوجوه يجمع بين سلطات الشرطة المختلفة، ويستهدف الجهاديين المحتملين، ويقوي أجهزة الأمن، من خلال تشغيل الناطقين باللغة العربية.

لكن يتعيَّن أيضاً القيام باستثمار في مبادرات أساسية، تشمل الشبان والدعاة المسلمين، لمنع الراديكالية في المجتمع. وهذه فرصة بلجيكا لإبعاد سمعة البلاد على شكل المصدر الرائد للجهاديين، لكنها إذا عالجت الأمر بشكل سيئ، فإن بروكسل قد تصبح الهدف، وليس القاعدة، للإرهابيين.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.