
كتب عبدالله التميمي:
«لو تبيَّن الشعب الأميركي، يوماً ما، الكيفية التي تعمل بها البنوك على حقيقتها، فسوف تكون هناك ثورة قبل صباح الغد».
(هنري فورد – مؤسس شركة فورد)
في الحلقة الماضية، من خلال قراءتنا لكتاب ديفيد غريبر «مشروع الديمقراطية.. التاريخ، الأزمة، الحركة»، الصادر في نوفمبر 2014، عن سلسلة عالم المعرفة، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وترجمه أسامة الغزولي، استعرضنا تطبيقات حركة «احتلوا وول ستريت»، وبعض ما تعرَّض له المتظاهرون فيها، وبعض أفكار الفوضويين المتعلقة بالتظاهرات، وأسباب تأييد قطاعات واسعة من الشعب الأميركي للحركة، وتأييد الشباب الجامعي للفكر الفوضوي، والاتجاه للراديكالية، بسبب البطالة، وظلم النظام الاقتصادي والسياسي لهم.
تعرَّض المؤلف لمسألة مهمة، تتعلق بهذا الجيل في أميركا، وأظنه ينطبق على معظم الأجيال في الدول الأخرى، التي تعاني هذا الأمر، حيث يُنتقد جيل الشباب، بأنه عاطل عن العمل، ولا يستطيع أن يؤمن معيشته، مقارنة بالشباب، الذين عاشوا في السبعينات مثلا.
ولكن لغريبر رأياً في هذا الموضوع، حيث يقول إن هذا «الجيل في حال أسوأ من الحال، التي عاش فيها آباؤهم عندما كانوا في سنهم، بكل المقاييس تقريباً، فقد حصلوا على أجور ومنافع أقل، وكانت ديونهم أكبر، واحتمالات البطالة أو دخول السجن أكبر».
ولا يهم ما هي الشهادة الدراسية التي تحصل عليها، فالجيل السابق كانت تكفيه شهادة الثانوية.. أما الآن، فالحاصلون على شهادة الثانوية لا يحصلون على وظائف جيدة، كما حصل لآبائهم الحاصلين على شهادة الثانوية، ما يضطرهم لدخول الجامعة، ولو عن طريق الاقتراض، لأن التعليم العالي أصبح سلعة مرتفعة التكاليف جداً.
العمَّال
«وبعيداً عن الطلاب، فالجماعة الأخرى الواقعة في فخ الديون هي جماعة العمال الفقراء (وبخاصة النساء العاملات والعمَّال الملونين)».
واتجهت كثير من الشركات الأميركية الصناعية إلى الأعمال التمويلية، بدل الإنتاجية، وتراجع التصنيع فيها إلى حد كبير فـ«الاقتصاد الأميركي لم يتحرك بقوة الصادرات، وإنما بقوة استهلاك منتوجات يُصنَّع معظمها وراء البحار، ويدفع مقابلها بكل أشكال التلاعب التمويلي»، و«سبب انهيار صناعة السيارات إبان الأزمة المالية في عام 2008، على سبيل المثال، هو أن شركات، مثلFord ، وGM، كانت تحقق، حتى ذلك التاريخ كامل ربحيتها تقريباً، ليس من صناعة السيارات، لكن من تمويلها»، وهذه الشركات الصناعية كانت عائداتها الربحية الناتجة عن الصناعة لا تزيد على 7 أو 8 في المائة.
ويشير غريبر إلى أن الشركات الصناعية هذه هي جزء من الشركات التمويلية الكبرى، وجزء من «وول ستريت» بالمعنى الشائع الذي يمتص المواطن الأميركي والأسرة الأميركية، ويثقل كاهلها بالديون الدراسية والعقارية وغيرهما، و»معظم الأميركيين يقدمون ما يقارب دولاراً واحداً من كل خمسة دولارات يكسبونها إلى وول ستريت مباشرة بشكل أو بآخر».
الاقتصاد الأميركي
ركز ديفيد غريبر بشكل كبير على مسألة الاقتصاد الأميركي، وعلاقته بالسياسة الأميركية والنظام الأميركي، وطريقة إدارة الأمور، فمن بين الأمور التي يطالب بها هو ورفاقه، أن تكون ثورتهم موجَّهة ضد النظام بأكمله، بشقيه؛ المحلي والعالمي، لأنه وفق زعم المؤلف، «أصبحت الرشوة الأساس ذاته الذي يقوم عليه نظام الحكم عندنا»، أي في الولايات المتحدة.
وحتى مسألة (ديون العالم الثالث) ارتبطت بهذه المشكلة، حيث إنه، وبرأي المؤلف، «استغلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، باستخدام وكالات مثل صندوق النقد الدولي، الأزمة المالية في البلدان الأشد فقراً»، لتعيد تشكيل اقتصادات تلك الدول، بما يضمن «إعادة توجيه معظم الثروة باتجاه الواحد في المائة من السكان، وانفتاح الاقتصاد أمام صناعة الخدمات التمويلية»، وهو ما أثار سخط العديد من سكان دول العالم الثالث، و«بحلول 2002 أو 2003 طُرد صندوق النقد الدولي بالفعل من شرق آسيا ومن أميركا اللاتينية»، وأصبح علامة على الفساد والجشع، ومحاولة سحق أحلام الفقراء.
وكانت ردات الفعل تلك على محاولة تدويل النظام الأميركي في دول العالم الثالث قد أتت أيضاً على شكل موجات من التمردات الديمقراطية «بدأت في الدول العميلة للولايات المتحدة»، وفق وصف المؤلف، من بينها «التمردات العربية»، لكن المؤلف يتحفظ على بعض تلك التمردات، حيث يشير إلى أنه على الرغم من احتوائها على العديد من الأطياف، «لكن بقي أن جوهر هذه التمردات مطلب ليبرالي كلاسيكي بجمهورية دستورية علمانية».
نشأة الدولار واتفاقية «البترودولار»
تطرق ديفيد غريبر لمسألة نشأة الدولار، الذي هو «بالأساس دين حكومي متداول. أو لمزيد من الدقة، دين حرب»، ويقصد بذلك حرب الاستقلال الأميركي عام 1775، حيث أصبحت الدولة مدينة للبنوك الخاصة، وآخرها البنك الفيدرالي، وأن هذا النظام غير المنطقي أصبح متداولاً دولياً، بعد مؤتمر بريتون وودز، الذي أقامه الحلفاء المنتصرون بالحرب العالمية الثانية، حيث جعلوا السندات الأميركية هي أساس النظام التمويلي الدولي، رغم الاعتراضات البريطانية آنذاك.
وبرأي المؤلف، فإن ما ساهم في هذا الشيء، هو القوة العسكرية للولايات المتحدة، حيث إنها تنفق «على جهازها العسكري أكثر مما تنفقه كل الدول على سطح الأرض مجتمعة»، وأنها أخذت الذهب من أوروبا، بسبب تدخلها العسكري، واستمرار حماية ألمانيا الغربية بعد ذلك، حتى إنها هددت «بسحب قواتها من ألمانيا الغربية، إن حاول بنكها المركزي صرف قيمة سندات الخزانة بالذهب»، ويقول المؤلف: «يبدو أن في اليابان، وكوريا الجنوبية، ودول الخليج، ترتيبات مماثلة حالياً».
واستبدال الدولار بالذهب عالمياً استمر بشكل متزايد منذ مؤتمر بريتون وودز، وزاد بشكل مكثف وملحوظ «منذ سبعينات القرن الماضي».
ويشير ديفيد غريبر هنا إلى عهد اتفاقية «البترودولار» الشهيرة بين المملكة العربية السعودية ودول «أوبك» والولايات المتحدة الأميركية، حيث استثمرت السعودية بشكل كبير في السندات الأميركية، وأصبح بيع النفط بالدولار مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً، سمح للولايات المتحدة، بأن تصدر تضخمها ونظامها الاقتصادي القائم على الدين للخارج.
السياسة الأميركية
أما موضوع النظام السياسي الأميركي، فالمؤلف يؤكد دائماً أن النخبة الإعلامية والسياسية تلاعبت بالألفاظ، و»تغيَّر اسم طلب الرشى، ليصبح جمع تبرعات، وصار اسم الرشوة ذاتها القيام بأعمال جماعة الضغط. والحقيقة التي يثبتها المؤلف، أن «ما يزيد على 80 في المائة من المساهمات في الحملات الانتخابية يأتي من النصف في المائة الأكثر ثراء». ويذهب المؤلف بعيداً بتحليلاته هذه، ويعممها حتى على مستوى الباحثين والإعلاميين والشرطة، ليقول «فإن كان بوسع المرء أن يرشي الموظفين العموميين، حتى يتخذوا من المواقف ما يجده مناسباً له، فلماذا لا يرشي الباحثين والعلماء والصحافيين والشرطة؟». و«أن الدراسات الاقتصادية ليست موجودة، لتقرر ما السياسة الأفضل.. لقد قررنا السياسة، بالفعل، والاقتصاديون موجودون، لكي يأتوا بأسباب تبدو علمية تبرر لنا أن نفعل ما قررنا أن نفعله»، و»أصبح من الطبيعي أن يُستأجر المرء، لمجرد أن يتوصل إلى تبريرات لمواقف سياسية مسبقة».
وحتى أولئك الديمقراطيين الليبراليين الكلاسيكيين، كما يسميهم المؤلف، من أصحاب نظرية «إبقاء الوضع على ما هو عليه»، وأن الانتقادات التي يوجهها الفوضويون للنظام الأميركي، يراها أعضاء الحزب الديمقراطي والليبراليون «هلوسات»، وأنهم مجموعة «من المهووسين المتعلقين بنظرية المؤامرة».
ما الحل؟
بعد أن انتقد ديفيد غريبر الفوضوي غريبر النظام الأميركي والأنظمة الديمقراطية في الغرب، يتساءل عندها القارئ؛ ما الحل من وجهة نظره؟ وما النظام الذي يصلح للعيش، وأن يكون ديمقراطياً يمثل الشعب؟
يتلخص هذا ربما في ما قاله المؤلف بالفصل الرابع من الكتاب، حيث يقول «لا توجد قواعد راسخة. والحركات تؤدي دورها على أكمل وجه عندما تكيّف نفسها على أفضل وجه ممكن مع ظروفها الخاصة. ويتوقف السياق الديمقراطي الأفضل على طبيعة المجتمع ذي الصلة، وعلى موروثاته الثقافية والديمقراطية».
ويتلخص فكر النظام، الذي يريد تطبيقه المؤلف في التوافق والفعل المباشر أو الديمقراطية المباشرة، والتوافق وفق ما طرحه المؤلف «لا يزيد عن أن من حق كل واحد أن يسهم في النقاش حول القرار، بالتساوي، وأنه لا أحد يتعيَّن إلزامه بقرار ينفر منه»، وبحيث يجب النظر في كل وجهات النظر المطروحة، وأن تؤخذ بعين الاعتبار كل الاعتراضات وتعالج، و«لا يتعيَّن إجبار أحد على المسايرة بخصوص قرار لم يوافق عليه».
وطبعاً، هناك اعتراضات تتعلق بكيفية إدارة هذا النقاش، وما يحصل فيه من اعتراضات، ناقشها المؤلف وردَّ عليها، وحاول أن يضرب أمثلة تاريخية، بوجود مثل هذا «التوافق» واقعياً.
أما الفعل المباشر، أو الديمقراطية المباشرة، كما يسميها المؤلف، فهي نوع من الممارسة الاعتراضية المباشرة على أي فعل، والاستعداد لانتهاك أي قانون لا يرتضيه الأفراد، فالمجتمع المحلي هو صاحب القرار في المدينة، والعمَّال هم أصحاب القرار في المصنع، وهكذا، كل فرد له رأيه في الأمور المتصلة بحياته، ويسعى إلى تطبيقه عبر الجمعيات العمومية.
ويرى ديفيد غريبر، أن الفعل المباشر هذا، بطريقته الفوضوية هذه، برأي الكثيرين، هو الذي أسس الدساتير الحالية والأنظمة القائمة اليوم، حيث تحدى أولئك الناس في ثوراتهم القانون القائم، عبر أعمال عنف غير قانونية، حيث كان على سبيل كل من جورج واشنطن وجيفرسون من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، موصومين بالخيانة وفق القوانين التي نشآ في ظلها.
فيتساءل غريبر منتقداً أعمال العنف، التي تقوم شرطة نيويورك بفعلها ضد المتظاهرين في وول ستريت، «فما الذي يعطي الشرطة إذن الحق في استخدام القوة لقمع شيء هو ذاته – الانتفاضة الشعبية – ما أسبغ عليهم مشروعية استخدام العنف، في المحل الأول؟»، فالولايات المتحدة ونظامها القائم، كان سببه «انتفاضة شعبية» غير قانونية وفق القانون القائم آنذاك.
وهنا يرى المؤلف أن فكرة احتكار الدولة لحق استخدام العنف لا معنى لها، ومرفوضة، وأن الفرق بين الشعب و«الغوغاء»، تاريخياً، كان متوقفا على «من كسب؟»، فإذا فرضت الانتفاضة نفسها أصبحت انتفاضة شعبية وفق الرواية التاريخية، لكنها إن فشلت، أصبحت حركة غوغائية، ليس إلا!
لكن برأي الفوضويين، فالحركات الشعبية الفاشلة وغير الفاشلة، هي شعبية، تعبّر عن رأي من الآراء في المجتمع، لا يمكن رفضها أو تحييدها.
وحتى على المستوى الدولي، هناك أحداث استدعت أن تكون هناك ردات فعل راديكالية تتحدى القانون الدولي، حتى تتحقق العدالة، وتتحقق الإرادة الشعبية في دولة ما، وضرب المؤلف مثلاً لذلك في ما حصل في الأرجنتين إبان الأزمة التي عصفت بالبلاد عام 2001، وانتشر الفقر، وأضحت الدولة مدينة للمجتمع الدولي بمالغ كبيرة، فوصلت حكومة اشتراكية ديمقراطية، بقيادة نستور كريتشنر، الذي «اعترف بأن استعادة أي قدر من الثقة الشعبية في قدرة الحكومة على أن تصبح مؤسسة شرعية يستدعي منه أن ينجز عملاً راديكالياً ما»، فقرر أن يمتنع عن دفع جانب كبير من الدين المستحق على بلاده من قِبل المجتمع الدولي، المتمثل بصندوق النقد، وهي خطوة جريئة تحدَّت القانون الدولي، وأوشكت على تدمير منظومة القانون الدولي، التي تسببت في ديون العالم الثالث، وهناك أمثلة أخرى محلية في بوليفيا والعراق والمكسيك ضربها المؤلف في كتابه تتعلق بالفعل المباشر ومحاولات إسقاط الشرعية.
في آخر الكتاب، يحاول المؤلف أن يوضح الكيفية، التي استطاعت الرأسمالية التمويلية بها أن تحيّد الاعتراضات، فهو يرى أن الأنظمة الغربية تركز على أن نظامها الحالي، هو الوحيد القابل للحياة، وما عداه أوهام وخيالات، كما هو في ما قبل الثورة الفرنسية، حيث كانت أحلام الديمقراطية والدساتير حديث العقلانيين في المقاهي، والمخبولين في الشوارع، كما هو شائع في ذاك الوقت. وحاول المؤلف أن يتحدى أعتى المبادئ القائمة في المجتمعات الحالية في ما يتعلق بالإنتاج، وضرورة العمل، والبيروقراطية، فالإنتاج الذي يحصل في العالم برأي المؤلف كثير منه يضر ولا ينفع، وأن العمل بهدف زيادة الإنتاج ما كانت نتيجته إلا زيادة الديون على الفقراء، وتراكم الثروة لدى الأغنياء، وأن العمل لمساعدة الآخرين، برأي النظام، غير مجدٍ، فيجب أن يعمل المرء لساعات وساعات، حتى يكون عبداً مسترقاً كالآلة، يسابق الزمن، لدفع ما عليه من ديون، حتى ينسى السياسة والحقوق، وينسى سبب كآبته الحقيقي، وأنه مسلوب الإرادة والحياة، فهناك برأي المؤلف خلل في مفهوم العمل والإنتاج.
استعادة الشيوعية
ولم يقتصر دور المؤلف في كتابه على انتقاد الرأسمالية، فقد ختم، بمحاولة استعادة «الشيوعية» الحقيقية، وفق وصفه، فالشيوعية برأيه شُوّهت بشكل كبير، وانحرفت عن مسارها الأصلي، وهي برأيه ليست «غياب أوضاع الملكية الفردية»، بل تعريفها الأصلي، هو «من كل وفق طاقته، ولكل وفق حاجته»، وأننا «جميعاً شيوعيون مع من نحبهم ونثق بهم»، وبهذه الطريقة يمكن أن تتحطم المفاهيم الاجتماعية القائمة حالياً، وعليه يُبنى مجتمع جديد قائم على الود والتفاهم.
ويعترف الكاتب أيضاً أنه لا يستطيع تحديد الكيفية التي يصبح فيها المجتمع حرا بشكل دقيق، لكن المطلوب الأهم برأيه هو «إطلاق الرغبة السياسية»، بناء على التوافق والفعل المباشر، حتى يصنع المجتمع، بكل أفراده، هذا المجتمع الحر، كما يحلو لهم ويتوافق مع رغباتهم جميعاً.