«مشروع الديمقراطية.. التاريخ، الأزمة، الحركة».. التنظير والتطبيق للفكر الفوضوي (1-2)

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

كتب عبدالله التميمي:
«كيف انتهينا، في بلد يزعم أنه ديمقراطي، إلى حال بدت فيها الطبقات السياسية – وهو ما أكده المشاركون في «احتلال وول ستريت» – غير مستعدة لمجرد الكلام عن ذلك النوع من القضايا والمواقف التي يعتنقها الأميركيون العاديون؟».

هكذا يصف ديفيد غريبر، المنظّر الفوضوي، النظام الأميركي، فهو وغيره من الفوضويين يعتقدون اعتقاداً جازماً، بأن الولايات المتحدة الأميركية لا تمثل النظام الديمقراطي، بل لا توجد هناك دولة ديمقراطية صحيحة برأيهم، إلا قديماً، وفي عصور متقدمة.

ويسمع الناس عن الفوضوية والفكر الفوضوي، لكنهم قلّما يجدون منظّراً لهذا الفكر.

ديفيد غريبر، هو أحد المنظرين للفكر الفوضوي، وأحد الوجوه البارزة في التظاهرات العالمية، في الولايات المتحدة واليونان ،وغيرهما من الدول الغربية، وأحد مؤسسي حركة «احتلوا وول ستريت».

الكثير من الانتقادات التي تأتي للحكومات الغربية ولسياساتها الخارجية، لكن القليل مَن يركز على سوء السياسات الداخلية، ونقد الديمقراطية الغربية من الداخل، وأعداء الديمقراطية الغربية بشكلها الحالي، لطالما كانت صفتهم اشتراكية، أو فوضوية، وأحياناً يكون الفوضويون هم أنفسهم من حملة الفكر الاشتراكي، لكن الفكر الفوضوي ليس مشابهاً للفكر الاشتراكي الستاليني.

يبدأ غريبر في كتابه «مشروع الديمقراطية.. التاريخ، الأزمة، الحركة»، الصادر في نوفمبر 2014 عن سلسلة عالم المعرفة، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وترجمه أسامة الغزولي، بالهجوم بشكل مباشر على الولايات المتحدة الأميركية، وعلى ديمقراطيتها المزعومة، وفق رأيه ورأي الكثير من الفوضويين والاشتراكيين، وقال: «لا شيء يخيف حكّام أميركا أكثر من أن يلوح طيف الديمقراطية».

وهنا نتساءل؛ أليست الولايات المتحدة دولة ديمقراطية، كما يصنفها كثير من المحللين والناس، كما هو معروف وشائع؟

يقول ديفيد غريبر عن فترة كتابة الدستور الأميركي: «لكنكم تعلمون أن الرجال الذين كتبوا الدستور لم يكونوا راغبين، حقيقة، في تضمينه وثيقة للحقوق. لهذا جاءت الحقوق، كتعديلات دستورية. لم ترد الحقوق في الوثيقة الأصلية». وبيَّن أن سبب تلك التعديلات هم المناهضون للفيدرالية.

وأكد غريبر، أيضاً، شيئا مهما يتعلق بالدستور الأميركي، وهو أنك «لن تجد في أي جزء من إعلان الاستقلال، أو في الدستور، ما يقول شيئاً عن أميركا، باعتبارها ديمقراطية»، حيث، وبرأي غريبر، إن ما تمارسه الديمقراطيات الغربية اليوم، هو في الحقيقة ليس ديمقراطية، بل الديمقراطية شيء آخر هم لا يحبونه، وكما يقول: «فقد كان الرجال من أمثال جورج واشنطن يعارضون الديمقراطية، صراحة»، و»هذا ينطبق عليهم جميعاً: ماديسون، هاميلتون، آدامز.. كتبوا، صراحة، أنهم راغبون في إنشاء نظام بوسعه تجنب أخطار الديمقراطية والسيطرة عليها».

وحتى عندما أسس غريبر ورفاقه، الفوضويون، حركة «احتلوا وول ستريت»، كانوا متفقين على مبدأ عدم التفاوض مع السياسيين، ومع النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة، لأنه بزعمهم، «غير شرعي» و«غير ديمقراطي»، وحركة «احتلوا وول ستريت» جاءت لاقتلاع النظام بأكمله، وليس للتفاوض معه.

ويرى غريبر أن مشروع «الديمقراطية المباشرة»، كما يسميه، يمكن أن ينشأ عالمياً، عبر نشأة حركات «العدالة العولمية»، كما يسميها، التي نشأت بداية في المكسيك عام 1994 مع التمرد الزاباتيستي، «ثم وصلت إلى الولايات المتحدة مع الأحداث الجماهيرية التي عطّلت اجتماعات منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999»، وكان من المفترض أن تنتشر تلك الحركات العالمية، لكن أحداث 11 سبتمبر عطلت تلك المسيرة، وفق رأي غريبر، وقوَّت القبضة الأمنية، و»تصاعد مستوى العنف التعسفي، الذي استخدمته الشرطة ضد النشطاء بمعدلات لا يرقى إليها الخيال».

«احتلوا وول ستريت»

بعد اجتماعات متتالية للفوضويين، وعودة نشاطهم بأثر الربيع العربي فيهم، والذي قوَّى من عزائمهم مرة أخرى، كانت اجتماعاتهم تناقش الرأسمالية وتنتقدها، وديمقراطية الولايات المتحدة، وفكروا في عمل ميداني يهز المياه الراكدة.

«احتلوا وول ستريت».. كان عنواناً لمجلة كندية اسمها «ADBUSTERS»، أي «ضد الإعلانات»، وهي مجلة مضادة للرأسمالية، وللنظام الإعلامي المصاحب للرأسمالية، بكونه مساعداً على تحطيم الإنسان، بجعله سلعة استهلاكية.
كان العنوان جذاباً، جذب إليه بعض الفوضويين في أميركا، وجعلوه هدفهم، لما تحمله «وول ستريت» من رمزية للرأسمالية الغربية، ولم تكن «احتلال وول ستريت» مسألة جديدة، فقد كانت مطروحة سنة 2001، لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عطلت المشروع، آنذاك، وألغته.

وفي البداية، اكتسبت الحركة تعاطفاً شعبياً واسعاً لوجود «الشعور المتنامي لدى الأميركيين، بأن البنى المؤسسية المحيطة بهم ليست قائمة، في الحقيقة، من أجل خدمتهم – بل إنها قوة غامضة ومعادية – وهو نتيجة ترتبت مباشرة على تحول الرأسمالية إلى رأسمالية تمويلية»، وفق وصف المؤلف، ويضرب لذلك مثلا في بنك أميركا (Bank of America)، الشركة التمويلية الضخمة، حيث يصفه، بأنه «كيان تمويلي ضخم لا يدفع الضرائب على الإطلاق».

وهروب البنك من الضرائب سببه ببساطة، وفق رأي المؤلف، أن البنك «أنفق ما يقارب 4 ملايين دولار على جماعات الضغط، وهذه مبالغ صرفت مباشرة للسياسيين، الذين وضعوا المدونات الضريبية التي جعلت أمراً كهذا ممكناً»، وأدَّى هذا الأمر إلى إعفاء البنك من ضرائب قيمتها مليار و900 مليون دولار!

على غير الأنماط السائدة

الفوضويون يحاولون تطبيق أفكارهم بشكل دقيق، في ما يتعلق بحشودهم واجتماعاتهم وتظاهراتهم، فيطبقون ما يسمونه «الديمقراطية المباشرة»، فيرفضون الممارسة «الرأسية»، حيث يكون هناك قائد وأتباع، بل يحبون الممارسة «الأفقية»، بأن يتساوى الأفراد في القيادة كأسنان المشط، ويكون التصويت حلا لبعض الأمور، لكن الاعتراض مسجَّل وموجود دائماً.

وحتى في تظاهراتهم، رفض غريبر ومجموعته رفع لافتات تعبر عن المجموع وتتكلم باسمه، أو وضع مكبر صوت لأحد الأشخاص، وما شابه، بل العفوية مطلوبة بشكل كبير، والصوت الجماعي مطلب مهم عندهم.

الـ 99 في المائة

وحتى مطالباتهم، لم تكن واضحة في البداية، ولم يحاول أحدهم أن يتكلم باسم المجموع، ليقول إن مطالباتهم كذا وكذا، ورفضوا التفاوض مع السلطة، أو تشكيل اللجان لحل مشاكل ديون الطلبة والمواطنين، وكما يقول المؤلف: «إنشاء اللجان هو ما يفعله السياسيون عادة عندما لا يرغبون في اتخاذ أي إجراء حقيقي».

وفي الجمعية العمومية للمتظاهرين، طرح غريبر فكرة كان قد استفادها من الكاتب الاقتصادي ستيغليتز، وهي «عن الواحد في المائة، من قبل الواحد في المائة، لمصلحة الواحد في المائة»، وشرح ستيغليتز فكرته هذه بشكل مستفيض، وننقل بعض عباراته التي تشرح هذه الفئة، حيث يقول: «فكل أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، تقريباً، ومعظم أعضاء مجلس النواب، يصبحون أعضاء في جماعة الواحد في المائة على القمة، بمجرَّد وصولهم إلى مناصبهم، ويبقي عليهم في مناصبهم المال، الذي يأتي من الواحد في المائة على القمة، وأعرف أنهم إن خدموا الواحد في المائة جيداً، فسيكافأون من قبل الواحد في المائة لدى خروجهم من مناصبهم».
وهكذا، يربط ستيغليتز بين الثروة والسلطة، «فالواحد في المائة هم أولئك الذين يضعون قواعد النظام السياسي، والذين حولوه إلى نظام يقوم على الرشى المقننة»، والرشى المقننة، وفق تعبير غريبر، هي ما يدفعه الأثرياء والشركات لحملات المرشحين الانتخابية، حتى يضعوا القواعد التي تحمي ثروات هؤلاء، فيصبح الثراء الفاحش والجشع محمياً بقوة القانون والنظام، فهؤلاء هم «ذلك القسم من السكان الذي في وسعه تحويل ثروته إلى سلطة سياسية، واستخدام السلطة السياسية لمراكمة مزيد من الثروة».

وفي الجمعية العمومية للمتظاهرين، يطرح المشاركون أشياء مهمة، لمساعدة غيرهم، فكل مختص يدلي بما يفيد في مجال اختصاصه، فيعطي القانونيون تدريباً قانونياً «ولو لمجرد أن يعرف كل واحد ما يتعيَّن عمله لو جرى اعتقاله»، إلى جانب التدريب الطبي، والتدريب على العصيان المدني، وجماعات تعمل على عمل «تكتيكات أكثر إبداعاً»، وفق وصف المؤلف، للقيام بالتظاهرات والعصيان المدني، وجماعات تراقب المزاج العام للمتظاهرين «ليرقب إن كان بوسع الكل أن يسمعوا أو إن كانت هناك ملامح واضحة لسخط أو إحباط أو تململ يتعين التعامل معها».

تعامل الشرطة معهم

وألقى غريبر الضوء على معاملة الشرطة الأميركية مع المتظاهرين، مُظهراً الوجه السيئ للقمع الأميركي، الذي وقع على المتظاهرين، بعيداً عن ضوضاء «الحريات» الصاخب، حيث كانت شرطة نيويورك تتبع استراتيجيات جيدة لمحاصرة المتظاهرين ومضايقتهم، ابتداءً من منع الخيام، إلى قطع التيار الكهربي عن الحديقة التي اعتصم فيها المتظاهرون، وصولاً إلى مباشرة أعمال إنشائية في الحديقة فجأة، لمضايقة المعتصمين.

ومع منع المعتصمين عن النزول إلى الشارع، والاكتفاء بالوقوف على الرصيف، كانت الشرطة تنتظر أي متظاهر ينزل عن الرصيف، لتصبَّ عليه جام غضبهاً، ولا توقفه فقط، بل وفق وصف المؤلف: «كل من يسمح لنفسه بالنزول عن الرصيف، مثلاً، يتوقع ليس فقط أن يجري توقيفه، بل أن يدفع به بعنف، ليرتطم بأقرب مركبة واقفة، أو أن يضرب رأسه عدة مرات في الخرسانة، استخدمت العصي، بحرية، ضد مشاركين في المسيرة لم يبدوا أي مقاومة، وكل هذا سلوك مميَّز لشرطة مدينة نيويورك».

التغطية الإعلامية

وسلَّط المؤلف بعض فقرات كتابه على أساليب الإعلام في تحجيم أو تضخيم التظاهرات، وفق المصلحة الراجحة، حيث انتقد الإعلام الأميركي، وأشار إلى أن صحيفة كبيرة كـ»نيويورك تايمز»، تجاهلت حركة «احتلوا وول ستريت» لمدة 5 أيام من بدايتها، حتى اليوم السادس، حيث كتبت الصحيفة تقريراً إخبارياً بقلم محررة «تسخر من الحركة، باعتبارها مجرَّد محاكاة تمثيلية للحركات التقدمية، من دون عرض ما يمكن تبنيه».

لماذا أيَّد الجمهور الحركة؟

«هم شباب فعلوا بالضبط ما طُلب منهم أن يفعلوه، فدرسوا، والتحقوا بالكليات، والآن، هم لا يعاقبون على ذلك فحسب، لكنهم يُهانون، يواجهون بحياة يعيشونها باعتبارهم فاشلين، عديمي الضمير، فهل من المدهش حقاً أن يتطلعوا إلى كلمة لأباطرة التمويل الذين سرقوا مستقبلهم؟».

بهذه الكلمات، التي كتبها غريبر لصحيفة الغارديان، وهاجم بها النظام التمويلي، الذي حطّم الشباب، وبالأخص طلبة الجامعات، الذين حطمهم النظام بالقروض، والبطالة.

«وقد أدرك خبراء مكافحة التمرد في الولايات المتحدة، منذ وقت طويل، أن المنبع المؤكد للغليان الثوري في أي بلد من البلدان، هو تزايد عدد السكان المتعطلين والمعوزين من خريجي الكليات: أي الشبان من ذوي الطاقات الفوارة، الذين لديهم فائض كبير من الوقت، ولديهم كل مبررات الغضب، والقدرة على مطالعة تاريخ الفكر الراديكالي كله».

وللمؤلف ديفيد غريبر كتاب سابق لهذا الكتاب اسمه «الدَّين: أول 5000 سنة»، يتناول مسألة الديون والمال عبر التاريخ، وينتقد بالطبع الرأسمالية التمويلية، وركز في كتابه «مشروع الديمقراطية» على مسألة الديون التي أثقلت كاهل المواطن الأميركي، وخصوصاً الطلاب منهم والشباب، ويستعرض حالة من تلك الحالات، وهي لطالبة حصلت على الدكتوراه في الأدب، لكنها مدينة بمبلغ 80 ألف دولار، بسبب قروض الدراسة، ما جعلها تعمل كمرافقة للترفيه عن بعض الأغنياء، لتسديد ديونها تلك.

ويشير غريبر إلى أن حالة الطالبة هذه أصبحت ظاهرة، وخصوصاً بين الطالبات الإناث، حيث إن مدير موقع إلكتروني متخصص في المواعدات الجنسية قدَّر أن «المسجلات لديه بلغ عددهن 280 ألف من الطالبات الجامعيات».

فالمفارقة هنا، أن هؤلاء الشباب والطلبة، التزموا بالقانون وبقواعد اللعبة التي وضعتها الدولة، والرأسماليون، لكن الدولة وطبقة الرأسماليين هم الذين لا يلتزمون بقواعد اللعبة غالباً، حيث يراهنون بمبالغ كبيرة في الأسواق، ويخسرون المليارات، وتعوضهم الدولة بالمقابل بتدخل حكومي عاجل وباهظ، وفي المقابل يعاقب الشباب والطلبة على التزامهم بتلك القواعد، التي وضعها النظام الاقتصادي للدولة، ونتيجة لذلك «فقد أظهروا استعداداً لتبني مواقف أكثر راديكالية».

وأصبح التعليم في الولايات المتحدة محكوماً بمنطق سوق، وتدمر «معظم ما كان ذا قيمة في تجربة التعليم الجامعي ذاتها، وهي التي كانت، في يوم من الأيام، السنوات الأربع الوحيدة المتميزة بحرية حقيقية في حياة الإنسان الأميركي».

حركة 6 أبريل المصرية

كان للثورة المصرية عام 2011 أثر كبير في حركات الفوضويين عبر العالم، وعلى د.غريبر أيضاً، حيث تكلم عن الحركة المصرية الشابة في صفحات كتابه، وأنه استقبل أفرادها في الولايات المتحدة، وتحدثوا معه عن نشاطهم الذي أدى إلى الثورة، وانتقد غريبر بعض المسائل المتعلقة بالحركة المصرية الشابة، وقال عن أفرادها إنهم من «الليبراليين الكلاسيكيين»، وهم برأيه لا يمثلون الديمقراطية الصحيحة المباشرة، بل يرى أنهم لو وُلدوا وعاشوا في الولايات المتحدة، لكانوا من أنصار أوباما والحزب الديمقراطي.

لكن زيارة هؤلاء الشباب المصريين حرك المياه الراكدة لدى الفوضويين، ورأوا في الربيع العربي فرصة مناسبة، لإعادة نشاط التظاهرات واحتلال المرافق العامة، وعودة حركة «العدالة العولمية».

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.