
دراسة: علي حسين العوضي
لم تحظَ تجربة مجلس الشورى في الكويت لعام 1921 بدراسات تاريخية مستفيضة، على الرغم من أهميتها الكبرى في التاريخ السياسي المعاصر في الكويت، من حيث دلالتها الأكيدة على وجود اتجاهات شعبية للمشاركة في الحكم واتخاذ القرار، عندما أخذ نمط الانفراد بالسلطة يشق طريقه.
هذه التجربة، أو «الحركة الإصلاحية»، كما أطلق البعض عليها، وإن كنا لا نتفق مع هذا الوصف، لعدم دقته، أحاطتها العديد من الظروف والمؤثرات الداخلية والخارجية، أفضت في نهاية المطاف، وفق توازنات اجتماعية محددة، إلى الصيغة «المشوّهة» التي خرجت عليها، فتوقفت مسيرتها مبكراً، وحالفها الفشل السريع والذريع.
و«الطليعة» تنشر على حلقتين الظروف التاريخية التي أحاطت بتأسيس مجلس الشورى، والمؤثرات التي رافقت تلك الحقبة، والعوامل الموضوعية التي أدَّت إلى انهياره سريعاً، وهذه هي الحلقة الثانية.

تشير العديد من المصادر إلى أن الشيخ أحمد الجابر تولى الإمارة قبل تعيين أعضاء مجلس الشورى، في حين أن كتاب «تاريخ الكويت السياسي» لحسين خلف الشيخ خزعل، أشار إلى أن مجلس الشورى بدأ اجتماعاته بمسألة تنظيم بيت الحكم، واختيار حاكم للبلاد من بين الأسماء الثلاثة، وركن المجلس إلى ترك حسم هذا القرار للمرشحين، الذين اختاروا الشيخ أحمد الجابر، فأقسم للأعضاء اليمين على الإخلاص بالعمل، وتمَّت الموافقة على ميثاق «خطي» لتنظيم أمور الكويت دونه الحاكم، في ما يلي نصه:
«هذا ما اتفق عليه حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر وجماعته:
أولاً: أن تكون جميع الأحكام بين الرعية في المعاملات والجنايات على حكم الشرع الحنيف.
ثانياً: إذا ادعى المحكوم عليه أن الحكم مخالف للشرع، تكتب قضية المدعي والمدعى عليه، ويحكم القاضي فيها، وترفع إلى علماء الإسلام في ما اتفقوا عليه، فهو الحكم المتبع.
ثالثاً: إذا رضي الخصمان على أي شخص أن يصلح بينهما، فالصلح خير، لأنه من المسائل المقررة شرعاً.
رابعاً: المشاورة في الأمور الداخلية والخارجية التي لها علاقة بالبلد، من جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو حُسن نظام.
خامساً: كل مَن عنده رأي فيه صلاح ديني أو دنيوي للوطن وأهله يعرضه على الحاكم يشاور فيه جماعته، فإن رأوه حسناً ينفذ».
ومن الواضح أن هذا الميثاق، الذي وضعه الشيخ أحمد الجابر، هدف إلى إيجاد الأساس الذي تحكم بموجبه علاقات الأفراد، وهو أن تجري المعاملات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية دون سواها، ما يعني استبعاد تطبيق القواعد العرفية التي سارت عليها البلاد في معاملاتها، إذا ما ثبت تعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية، وتأكيداً على هذا المعنى وجدت درجة للتقاضي سمحت لأحد طرفي الدعوى استئناف الحكم إذا ما اعترته مخالفة لأحكام الشرع.
كما يلاحظ أن هذا الميثاق ألزم الحاكم بمشورة المجلس في أمور البلاد الداخلية والخارجية، بل سمح لكل فرد أن يُدلي برأيه لدى الحاكم إذا كانت فيه مصلحة عامة، على أن يعرض الحاكم هذا الرأي على المجلس، ليتخذ قراره، إلا أن المجلس لم يكن سوى سلطة استشارية بحتة، من دون أن يتمتع بسلطات تشريعية، فقد كان يعاون الحاكم عن طريق إبداء الرأي والنصح في المسائل التي يعرضها عليه، إذ يمكننا القول إن الحاكم كان ملزماً بعرض الأمور المتعلقة بالقضايا الداخلية والخارجية التي تهم البلاد، ولكنه بعد ذلك غير ملزم قانوناً بما ينتهي إليه المجلس من رأي، إذ يحق للأمير أن يأخذ به أو يتركه.
حاول المجلس إصلاح وضع القضاء والمسائل الحقوقية والشرعية، وهو ما وضح في الجلسة الثالثة، حيث تقرر إحالة منصب القضاء إلى عهدة «قاضي شرع»، اشتهر بالعدل والنزاهة والاستقامة، على أن تتم تنحية القاضي السابق وتولية الشيخ أحمد الفارسي، وتم إبلاغ الحاكم بهذا القرار لتنفيذه.
وفي الجلسة الرابعة، عرض الحاكم على الأعضاء اتصالاته ومفاوضاته مع الشيخ الفارسي، الذي اعتذر عن القبول، قائلا: «إني لست بأحسن حال ولا سيرة، ولا أكثر علماً من قاضيكم الحالي، فاعذروني من هذا الأمر»، وهو ما اضطر المجلس إلى إبقاء القاضي في منصبه، كما قرر المجلس انتخاب عدد من أفراد آل الصباح ومن أعيان الكويت، لإصلاح البلد وإدارة شؤونه ومراقبة الأحكام الشرعية.
خلافات
واصل المجلس عقد اجتماعاته، إلا أن المحصلة النهائية للأداء والنتائج ضعيفة وغير مشجعة، فزادت وارتفعت وتيرة الخلافات الشخصية بين أعضائه، وكذلك عدم الاحترام لمبدأ أو قاعدة «الأغلبية» في التصويت، وتفرغوا لمطالبهم الخاصة.
ومثال على هذه الخلافات، تدخل عبدالرحمن النقيب في أمور خارجة عن صلاحيات المجلس، فاعتبر آل الصباح أن ذلك إجحافاً بحقوقهم ومخلاً لكيانهم، فتم تهديد النقيب بإجراءات مضرة به، إن لم يتوقف عن هذا السلوك، فنتج عنه فتور بالحضور بين الأعضاء، الذين أخذوا يرسلون أولادهم بدلاً منهم، ثم حدث خلاف و«شجار» بين أحمد الخالد ومشعان الخضير، فانقطع الأول عن الحضور، بإرسال مندوب عنه، كما انتشر السب والشتم في قاعة المجلس، ما حدا بأحد أعضائه، وهو إبراهيم المضف، للاعتراض على ما يحدث، فعدّه مخالفاً للآداب والأعراف.
كما ظهر عدم اهتمام الأعضاء بحضور الجلسات، التي أخذت بالانحسار والتقلص مع مرور الوقت إلى أن تعذر قيامها والدعوة إليها، وعلى إثر ذلك انقطع الشيخ أحمد الجابر عن الحضور، في حين أخذت هذه الأخبار تنتشر في الأوساط العامة، وبدأت الثقة في المجلس تقل وتهتز.
الرسالة!
أما الضربة، التي قصمت ظهر المجلس، فتكمن في رسالة وصلت إلى المعتمد السياسي البريطاني الميجور مور، على أنها كانت مقدمة من أحد أعضاء المجلس، تتهم المجلس بالجهل، فقام بدوره بتسليمها للحاكم، وقد حملت توقيع «الأمة»، حيث رفض أصحابها أن يكون المجلس ممثلاً لهم، أو أن يكونوا مسؤولين عن تبعات القرارات التي تصدر عنه، وجاء في الرسالة «إننا نبرأ إلى الله من هذا المجلس الذي جمع أعضاء لم يعرفوا التمرة من الجمرة، ولم ينتخبوا من قِبل الأمة».
رفع الشيخ أحمد الجابر الرسالة إلى المجلس، فجرى استعراضها في جلسة عاصفة أثارت جدلاً حاداً بين الأعضاء، وتبادلاً للاتهامات حول قيام «أحدهم» بكتابتها، فتم اتهام الشيخ عبدالعزيز الرشيد، إلا أن الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، الذي كان على معرفة ودراية بـ «خطوط» الكويتيين، نفى هذا الاتهام، مؤكداً براءة الرشيد منها، في حين أنه لم يعلن في ذلك الوقت لأعضاء المجلس عن كاتب الرسالة وصاحبها الذي عُرف لاحقاً بأنه هو السيد هاشم الرفاعي، وبدلاً من أن يقوم الأعضاء بمواجهة الكتاب والعمل على تلافي السلبيات ودراسة الأخطاء والتركيز على الجوانب «النافعة»، أخذ الفتور والكسل يعتريهم شيئاً فشيئاً.
لم يكترث الحاكم لما أحدثته هذه الرسالة من ضجة واستياء لدى الأعضاء، فقد استحسن ما حملته به من انتقاد، وأدَّت هذه الظروف وتطوراتها إلى أن يحل المجلس نفسه تلقائياً في أغسطس 1921، قبل أن يمضي على تأسيسه شهران.

كلمة أخيرة
يقول الشيخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت» حول مجلس الشورى: «المؤسف المحزن أن هذا المخلوق الصغير كان قصير العمر جداً، فإنه ما كاد يحبو حتى زهقت روحه وألحد في قبره، وقد تضاربت الأقوال فيمن هو الملوم على إحباط هذا المشروع، ومَن الذي تلقى عليه المسؤولية في إخفاقه.. أما أنا وقد كنت واحداً من أهل ذلك المجلس، فإني أنزه سمو الأمير عن المسؤولية».
أما الواقع الفعلي، فلم يملك مجلس الشورى الكويتي أي سلطات تشريعية تمكنه من فرض نفسه على الواقع السياسي الكويتي، فكان أقرب إلى «مجلس للأعيان»، إلا أنه في المقابل أوجد نوعاً من المشاركة الشعبية في شؤون الحكم، فللمرة الأولى في تاريخ الكويت تشارك لجنة من الكويتيين في وضع أحكام وثيقة دستورية تنظم شؤون البلاد، وللمرة الأولى في تاريخ الكويت يشكل الكويتيون مجلساً استشارياً يعاون الحاكم في إدارة شؤون البلاد، ولا شك أن هذه الخطوة كان لها أثرها في ما بعد على مجمل الأحداث السياسية، وعلامة للبداية في التطور المؤسسي الدستوري في الكويت.
ولعل أحد أهم الأسباب الرئيسة، التي أدَّت إلى نهاية مبكرة لتجربة هذا المجلس، أن أعضاءه جاءوا عن طريق التعيين، فلم تكن هناك انتخابات حُرة منظمة تفتح المجال لعضويته مَن هم أكثر جدية وأصلح لتمثيل الشعب، والقيام بالمهمة الملقاة على عاتقهم، إذ كان أساس الاختيار هو «الوجاهة والثروة»، بغض النظر عن «الكفاءة والمقدرة»، فاستبعد العامة من المواطنين عنه، كما أهملت فئات اجتماعية من عضويته، لذلك كان أعضاؤه غير متجانسين في التوجه والفكرة والبرنامج، فانتشر الخلاف والتشاحن بينهم وتباينت مصالحهم.
وهناك ملاحظة أخرى حول مجلس الشورى، هي أنه لم يكن لديه «سكرتير عام» لتدوين ملاحظات الأعضاء أو كتابة محاضر الاجتماعات، وهو ما يعني أنه لم تكن لديه لوائح تحكم أعضاءه، ويعطي انطباعاً بعدم تبلور فكرة المجلس بإطاره وأسسه التنظيمية الصحيحة والفاعلة.
لم تتحول المطالب، التي رفعها أعيان البلد في تلك الفترة إلى حركة إصلاحية شعبية مجتمعية واسعة، بل ظلت محصورة في نطاق عريضة محددة تم رفعها للحاكم، إلا أنهم تنازلوا عن بعض البنود ذات الشكل الديمقراطي، مثل عملية الانتخاب، حيث تم الاكتفاء بالتعيين فقط، وهو ما يعني إبعاد مكونات اجتماعية أخرى عن المشاركة، ولعل لهذا الأمر ما يبرره، خصوصاً مع الفوارق الكبيرة بين فئات المجتمع، وبالذات في مسألة التعليم.
وختاماً، على الرغم من هذه الملاحظات على تجربة مجلس الشورى، فإنها تبقى واحدة من المحاولات، التي ثبّت فيها الكويتيون رؤيتهم في المشاركة في إدارة الدولة، وهو ما يتضح جلياً عندما أقر دستور الكويت في 11 نوفمبر 1962، فنصت المادة الرابعة منه على أن «الكويت إمارة وراثية في ذرية مبارك الصباح»، في حين قضت المادة السادسة منه على أن «نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً».